فقالت: «أما إخبارها بهذا فعلي أنا العاجزة التي تتعهد ببذل نفسها في سبيلكما، فطيبا نفسا وقرا عينا، وغدا إن شاء الله أدبر حيلة في الذهاب إليها وأطلعها على ما دار بيننا وأعلمك بما سيكون، فقد سرني كثيرا ارتباط قلبيكما.»
ثم فكرت قليلا وقلبها فرح بما علمت فرأت أن تثبت قوله بالعمل وتعود إلى سيدتها بما يحقق أملها فقالت: «ولكن يا سيدي ما الذي يثبت قولي لها ويوطد علاقة المحبة بينكما وأنتما إلى الآن لم تتشافها صريحا ؟»
فلبث أركاديوس يفكر ثم قال: «صدقت، ولكن ماذا عساي أن أرسل إليها، وما أنا على استعداد لذلك؟» ثم مد يده إلى خاتم في بنصره يريد إخراجه ولكنه توقف هنيهة ممسكا بالخاتم كأنه يهم بسحبه ويعترضه خاطر فيمنعه، وأخيرا نزعه وقدمه إلى بربارة وقال: «خذي هذا الخاتم فإنه خاتمي، وقد نقش عليه النسر الروماني واسمي، وسلميه إليها يدا بيد، واحذري أن يعلم أحد بذلك، واعلمي أني قد سلمتك شرفي، ووضعت فيك ثقتي، وهذه هي أول مرة خاطبتك فيها فلا تخيبي أملي، وأطلب إليك أن تحفظي ما دار بيننا، واحذري أن تفوهي به أمام أحد، فإنك إذا أصغيت إلى مقالي وسلكت مسلكا يرضيني نلت خير الجزاء. أما إذا بحت بالأمر أو خالفت وصيتي فأنت تعلمين جزاءك.»
فتناولت الخاتم وقبلته وقالت: «طب نفسا وقر عينا، فإني الخادمة الأمينة لك ولسيدتي التي هي أعز لدي من روحي.» •••
ثم نهضت فقبلت يده وطلبت إليه أن يأمر بمن يوصلها إلى صندوق رئيسة الدير، وألا يتعرض لها أحد بشيء، فنادى خادمه الخاص وأوصاه أن يرافقها إلى حيث تريد، فسارت وأخرجت الكتاب خلسة وتظاهرت بحمل الأيقونة، ونزلت حتى أتت مقام الرئيسة والراهبات فأعطتها الأيقونة، وأخبرتها أنها أطالت المكث هناك حتى تمكنت من تدبير الحيلة لإخراج الكتاب وكانت قد خبأته في جيبها، وأرادت الذهاب به لتوها إلى سيدها أرسطوليس، ولكنها خافت أن تقع في أيدي الحراس فيفتضح الأمر، فلبثت بقية ذلك الليل حتى إذا أقبل الصباح ذهبت بالكتاب إليه، فإذا هو في انتظارها على مثل الجمر، فلما رآها مقبلة نهض لملاقاتها وأدخلها غرفته وسألها عن الكتاب، فمدت يدها إلى ثوبها وأخرجت أسطوانة من القصب الفارسي دفعتها إليه، فتناولها وقد علم أن الكتاب في داخلها، ففتحها من أحد طرفيها وأخرج الكتاب فإذا هو رق من جلد مطوي؛ إذ كان أكثر استخدام الرق للكتابة في بلاد العرب وعند سائر أهل البادية، أما المصريون فكانوا يكتبون على البردي، ففض الكتاب وقرأه فإذا هو مكتوب بالقبطية من البطريرك بنيامين إلى المقوقس وهاك ترجمته :
ولدنا بالرب يوحنا قرقت حاكم مصر
قضي علي بالانزواء في هذا الدير، وأنت تعلم أني إنما أبعدت إليه ظلما وعدوانا بأمر أعدائنا دينا ووطنا ورئيسهم البطريق الإسكندري؛ لأنهم ضلوا سواء السبيل وحرفوا كلام الله عن مواضعه، ولست أنا أول من صبر على هذا الاضطهاد، فأنت تعلم أن كثيرين من البطاركة ذهبوا ضحية هذا الضلال، وأنا لا أطلب لهم إلا الهداية إلى الحق، ولا أدينهم ولكن الله يدينهم، وأما ما أوجب كتابة هذا إليك فهو أنني علمت عن ثقة أن العرب الذين قد ظهروا بالدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيله قد حاربوا الروم في العراق وفارس وسورية وفلسطين وتغلبوا عليهم، وأخذوا البلاد من أيديهم، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء من عباده، وقد علمت أنهم قادمون إلى مصر لانتزاعها من أيدي أعدائنا، وأنا أعلم أنك لا تستطيع المخاطرة بالانحياز إليهم كما أخبرتني غير مرة؛ لئلا يعود ذلك علينا بالوبال، وقد أعجبني ذلك منك؛ لأنه دليل على الحزم والدراية، ولكنني واثق بثباتك مع سائر أولادنا جماعة الأقباط الذين أثقل الدهر كاهلهم بالاستبداد والعنف، وقد مضت عليهم قرون وهم يئنون من وطأة هذا الظلم ولا مجير لهم.
وقد رأيت في ليلتي هذه حلما تفاءلت منه خيرا، وعلمت أن هؤلاء العرب أرسلهم الله لإنقاذنا من أيدي الروم. على أننا لو أردنا دفعهم ما استطعنا إليه سبيلا؛ لأن الله منحهم النصر فيما قاموا به، فلم يهاجموا حصنا إلا فتحوه، ولا نازلوا جندا إلا هزموه، ولا يخفى عليك أن الروم قد دالت دولتهم، ولو أراد الله نصرهم ما خرجت بلاد الشام من أيديهم، واعلم أيضا أن هؤلاء العرب قد قاموا يدعون الناس إلى دينهم، فإما أن يقبلوا الدعوة أو يحاربوا إلى آخر نسمة من حياتهم أو يستسلموا ويدفعوا الجزية. أما أنا فلا أرى أن تخرجوا من دينكم الذي ولدتم عليه، ولكن الاستسلام ودفع الجزية لهؤلاء العرب أولى بنا وأقرب إلى خلاصنا من الظلم، فإذا كنت لا تزال على ما أعلم فافعل وأنقذ البلاد من الشر ، واحذر أن تتحول عن عزمك، وها إني أصلي ليلا ونهارا وأدعو الله أن يأخذ بيدك ويلهمك ما فيه خيرك وخير البلاد.
وأخيرا أهديك البركة وأدعو لك ولسائر أبنائنا وإخواننا بالروح، والرب يحفظكم.
البطريرك بنيامين
Page inconnue