فصمتت أرمانوسة لحظة ثم وقفت ودنت من المنضدة وجعلت تتشاغل بتقليب ما كان عليها من التماثيل الصغيرة، وفيها أشباه أبي الهول والجعلان من الذهب والفضة، ثم عادت إلى السرير مرتبكة تتلهى بتثنية منديلها بين أناملها، وهي تنظر إليه وتحاول التكلم ويمنعها الحياء. فنهضت بربارة وقبلتها وقالت لها: «تكلمي يا حبيبتي لا تخفي علي شيئا، وأنا أقسم لك بمريم العذراء صاحبة هذه الكنيسة (وأشارت إلى جهة حصن بابل حيث كنيسة المعلقة) أن أحفظ سرك في قلبي، وأكون لك عونا في كل ما تريدين.»
فنظرت أرمانوسة إليها من طرف عينها، وهمت بالكلام فأرتج عليها ثم قالت: «انظري هل لا يزال أحد من الخدم مستيقظا؟»
قالت : «لا تخافي فليس من يتجرأ على الدنو من غرفتك، وسأذهب لأستطلع الأمر.» وخرجت والمصباح في يدها تاركة سيدتها وحدها في الغرفة.
لبثت أرمانوسة تنتظر عودتها، فلما رأتها أبطأت شغل بالها واستولى عليها القلق، ولما ملت الانتظار نهضت من السرير ودنت من الشرفة، وأطلت على الحديقة فسمعت ضوضاء الناس عند الضفة فازداد اضطرابها، فأصغت فإذا بأصوات رجال، ولمحت عند الشاطئ قوارب عديدة وقد خرج منها نفر يسرعون نحو القصر، وأرادت أن تنادي أحدا تستطلع منه الخبر، فإذا ببربارة قد عادت وعلى وجهها أمارات الدهشة، فابتدرتها أرمانوسة قائلة: «ما سبب هذه الجلبة، ومن هم هؤلاء الرجال يا بربارة؟ أخبريني.»
قالت: «طيبي نفسا يا سيدتي ولا تضطربي؛ فليس ثم غير الخير إن شاء الله.»
قالت: «قولي ما الخبر، وما الداعي لهذه الجلبة؟»
فقالت: «إنها من دواعي سروري وسرورك؛ فإن سيدي أباك قد بعث بجماعة من خاصته بمعدات الاحتفال، ليذهبوا بك إلى عين شمس حيث يوافيهم أبوك لكي تسيروا جميعا إلى بلبيس، فتقيمي في انتظار خطيبك ريثما يسير بك إلى القسطنطينية.» •••
اضطربت أرمانوسة عند سماعها الخبر، واشتد بها اليأس حتى تناثرت الدموع من عينيها وغلبها البكاء، فازداد تعجب بربارة وهي لا تفهم لهذا البكاء سببا، فتقدمت إليها وقبلتها وضمتها إلى صدرها، وجعلت تتوسل إليها أن تخبرها بكنه الأمر إلى أن قالت: «لعلك شعرت بالوحشة عندما علمت بالسفر ومفارقة أبيك ومنزلك، ألا تعلمين يا سيدتي أنك ستنتقلين من قصر إلى قصر أعظم منه، ومن بيت مجد إلى بيت مجد أرفع منه؟»
وكانت أرمانوسة تمسح دموعها بيدها، فلما سمعت كلام بربارة مدت إليها يدها وقبضت على ذراعها وقالت: «لا تذكري القصور والمنازل؛ فإن السعادة ليست في الأبنية ولا في العواصم، ولكنها في القلوب والعواطف. دعيني يا بربارة من هذه الأوهام وعزيني بغيرها.»
فعجبت بربارة من هذا الكلام واستغربته ولم تفهم ما وراءه، وقالت: «بالله يا سيدتي أفصحي عن حقيقة أمرك، فقد أشكل علي فهم الواقع، هل تكرهين الأسفار أم ...»
Page inconnue