Quatre Lettres de Philosophes Grecs Anciens et d'Ibn Al-'Ibri
أربع رسائل لقدماء فلاسفة اليونان وابن العبري
Genres
ولأن كثرة الرؤساء تفسد السياسة وتوقع التشتت، فلذلك احتاجت المدينة أو المدن الكبيرة أو البلدان أو أكبر العمارة إلى أن يكون رئيسا واحدا كما تهيأ لك أيها الملك،
2
وأن يكون سائر من ينصب لتمام التدبير والسياسة والحفظ أعوانا له سامعين مطيعين منفذين لما يصدر عن أمره حتى يكونوا كالأعضاء له يستعملهم كيف أحب، ويكونوا كالحاضر لجميع عمله بحضورهم وإنفاذهم لأمره ونهيه، يتناول بهم الأمر البعيد كتناوله بيده الشيء القريب ويدرك بهم ما نأى كإدراكه برجليه ما قرب منه.
ويبين أيضا مع ذلك أنه لا يكمل لسياسة أهل مدينته إلا من كمل لسياسة أهل بيته ولسياسة نفسه، وإن كان المستحق للانفراد بالرئاسة والسياسة ينبغي أن يكون أفضل أهل زمانه، وأن يكون لمن يرأسه ويسوسه بمنزلة الوالد الشفيق، متفقدا لما صغر وكبر من (104) أمور رعيته غير متشاغل بشيء عن ما حصنها وجمع شملها وتب (ورتب؟) العدل والإنصاف فيها، ودفع الضرر عنها بكل ما يجد إليه السبيل. ولم نر يكمل لذلك إلا من اجتمعت فيه الفضائل، وإنما تجتمع الفضائل في من كان مطبوعا على قبلوها ، فإنه ليس كل طبع مؤاتيا لقبول الفضائل ولا كل نفس بصيرة بالجميل. وذلك أن الناس على ثلاث طبقات؛ فمنهم من يتنبه على فعل الجميل، وإتيان الحق من تلقاء نفسه وهذا أفضلهم، ومنهم من لا يتنبه على ذلك من تلقاء نفسه إلا إذا نبه عليه سمعه وأسرع إلى قبوله. ومنهم من لا يتنبه عليه ولا يقبله متى سمعه من غيره وهذا شر الناس. ومن كان كذلك فلا يجب أن يقلد تدبيرا ولا سياسة، ولا يكون إلا في عداد من يقمع ويكف شره عن غيره بالتخويف والترهيب وتغليظ العقوبة.
ومن سعادة أهل الزمان أن رأسهم ومتقلد سياستهم وتدبير أمورهم الملك الجليل الذي قد اجتمعت فيه الخصال الموجبة للملك، من مؤاتاة الطبع لقبول الفضائل واستعمالها في مواضعها وإظهارها في نفسه أولا، ثم في سائر أهل مملكته شريفها ودنيئها، عالمها وجاهلها، غنيها وفقيرها، بعيدها (105) وقريبها، كل واحد منهم على حسب ما توجبه طبقته حتى قد خضعت له الأمم، وانقادت له الممالك، وبخع له الأعداء، وذلت له السادة ورضي برئاسته الملوك. فقد سكنت الحروب وائتلفت القلوب، وانطفت بسطوته وإفراط هيبته نار الشرور وكسد الجهل، وقامت سوق العلم واتضحت السبل، وانبسطت التجارات وكثر الخصب ورخصت الأسعار وانتشر العدل واستقامت الأمور، وزال الخوف واتفقت الآراء وبطل الاختلاف. فليس يوجد محارب ولا معتد ولا متخط طوره، كل قد لزم طبقته ووقف في ظله، وعرف مقداره. فالرئيس يأمر وينهي والمرءوس يسمع ويطيع، وإنما التام (التأم) ذلك كله بتيقظ الملك واستفراغه وسعه، واستعمال همته في اسساب (استتباب) سياسته، وتدبير رعيته، ومراعاته أسبابها فهو بذلك منصف لها من نفسه ومنتصف لبعضها من بعض ودافع الشرور عنها.
وإذ قد انتهيت إلى هذا من القول، فأنا ممتثل ما أمر به الملك من وصف ما ينبغي أن يكون في الملك من الخصال التي يستحق بها أن يكون ملكا (106) ويزول عنه بها اسم التغلب والقهر. فقد تبين بما وصفنا آنفا أن الناس إنما احتاجوا إلى رئيس ومدبر وملك ليدفع عنهم الأذى الواقع على بعضهم من بعض؛ حتى يقصد كل واحد منهم الصناعة التي انتحلها لمصلحة نفسه ومصلحة غيره، ممن يحتاج إليها فلا يعوقه عنها عائق؛ فيتم بذلك تعامرهم وترازقهم وتعاضدهم وترافدهم وتعاونهم على مصلحة عيشتهم واستقامة أمورهم، ويصيرون كالأعضاء الكثيرة المختلفة التي تخدم بعضها بعضا لتمام بدن واحد صحيح سليم. فواجب من ذلك أن يكون المتقلد لسياستهم معرى من الشره قاهرا للذاته لا يطلق لنفسه منها إلا ما كان به قوام بدنه، فإن من قهرته لذاته فهو عبد لها ومن كان عبدا فليس له بالحقيقة ملك.
وأن يكون غير محب لجمع المال إلا من الوجوه التي تعود بالنفع على الرعية. ويكون حاذقا بجمعه من وجوهه وإنفاقه في وجوهه، غير مفرط ولا مقتر ولا متجاوز حدود ما هذه سبيله، غير باسط ليده إلى شيء من مال العامة. وأما ماله فينبغي أن يكون مبذولا يتقدم سائر الناس السماحة (بالسماحة) والسخاء، ويمنع نفسه أولا ثم (107) رعيته من استعمال الآلات والأواني المتخذة من الجواهر التي جعلت قيمة الأشياء أعني الفضة والذهب اللذين يتعامل بهما الناس، ويقومان لمن يكونان عنده مقام كل ما يحتاج إليه؛ لأن ذلك يؤدي إلى غلاء الأشياء وعوزها.
وأن يكون خبيرا بأخلاق الناس كثير التفتيش عن مذاهبهم؛ ليختار كل واحد لما يصلح له، ويجعل الشجاع النجد محاربا والثقة الأمين خازنا وحافظا، والعلم السديد قاضيا حاكما، والمحنك المجرب الصحيح الرأي مستشارا، ولا ينبغي أن يستخدم في مطعمه ومشربه وملبسه وبالجملة فيما يقرب منه إلا أحد ثلاثة؛ إما من تربى معه وألفه، وإما من رباه الملك على أخلاقه، وإما من ربى الملك في حجره، فإنما هؤلاء يخدمونه بمحبة، ولذلك يجب أن يكون إحسانه وأفضاله وتفقده لأمورهم أكثر منه لجميع الناس، ولا يتكل في مراعاة أسبابهم على غيره.
فأما حاجبه فينبغي أن يكون فهما يعرف مقادير من يصل إلى الملك؛ ليكون معاملته إياهم بحسب ذلك، ولا يكون شرها نطفا ولا كسلان بطيء الحركة، وأن يكون بين الشرس في الأخلاق ولينها (108) مقتدرا على التعب والنصب، حسن الحدس والتخمين معرى من الهزل قليل الضحك.
وأما الجند والمحاربون وبالجملة من يحمل السلاح، فلا يستعمل منهم من قد اعتاد الترفه والراحة والتنعم بالمطعم والمشرب والسماع ولين الملبس، فإن هذه السيرة تعريهم من جميع ما يحتاج إليه منهم من الشجاعة وشدة البدن والإقدام على الموت، والصبر على الشقاء في البعوث من البرد والجوع والحر والعطش، وما لا يكاد ينفك منه المسافر، ويمنع الجند من انتحال الصنائع، ويؤخذون دائما بالرياضة كل فريق منهم بما يصلح من السلاح، ويتفقد أحوالهم بالعرض في كل شهر مرة، ويقام لهم جميع ما يحتاجون إليه لئلا يشغلهم الطلب عما يحتاجون منهم، ويمنعون عن أن يسئوا آدابهم في الطلب فيكون في ذلك عضا (غض) على المملكة إذ كان أعظم قوامها فيهم.
Page inconnue