Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
وإذن فهل نستطيع - بعد هذه الرحلة الطويلة التي استعرضنا فيها موقف الفكر البشري من الآلة ومن العمل اليدوي على مر العصور - أن نقول إن انتقادات الفلاسفة القدماء للعمل اليدوي قد أصبحت غير ذات موضوع؟ وهل نستطيع أن نجزم بأن الإنسان العامل قد تخلص تماما من كل أنواع العبودية؟
إن الأمر الذي يمكننا أن نؤكده هو أنه قد سار شوطا بعيدا في سبيل التخلص من العبودية الاجتماعية، وتحرير ذاته من النظم الاستغلالية التي كانت تحول بينه وبين التمتع بثمار عمله، ولكننا لا نستطيع أن نؤكد - بنفس القوة - أنه أصبح - وهو يقوم بعمله - يحس بأنه يمارس نشاطا خلاقا مشوقا، لا يشعر فيه بأن إنسانيته قد أهدرت، صحيح أنه الآن أقوى شعورا بما يمكن أن يعود به العمل من مكاسب، وبمقدار التغير الذي يمكن أن يطرأ على حياته بفضل العمل، ولكن من الصعب أن يجزم المرء بأن العامل يجد متعة كامنة في عمله ذاته، وأنه ليس محتاجا إلى وسائل أخرى - خارجة عن نطاق عمله - لإثارة حماسته للعمل.
وهكذا يبدو للكثيرين أن أدق النظم تطبيقا للاشتراكية ما زالت - حتى الآن - بعيدة عن حل مشكلة رتابة العمل الآلي وشعور الإنسان فيه بالتفتت والتمزق، وما زالت عاجزة عن التخلص من كثير من الأعمال «المهينة» كأعمال النظافة مثلا، وما زال العامل فيها يفتقد في أوقات عمله عنصر الابتكار والخيال وسط الآلية الشاملة المحيطة به. إن تحقيق العدالة الاجتماعية - بمفهومها الراهن - لم يقض على كل المشكلات الإنسانية في العمل، وما زال على البشرية أن تكتشف أبعادا أخرى أشد اتساعا لمفهوم العدالة الاجتماعية، وتبتدع وسائل جديدة لحل مشكلة التقابل بين العمل اليدوي والعمل العقلي، بعد أن قطعت شوطا بعيدا في حل مشكلة التقابل بين العامل وصاحب العمل.
وقد يكون من أهم هذه الحلول إشعار العامل بقيمة عمله ونتيجته؛ ذلك لأن المشكلة الحالية للعامل الصناعي ليست هي الإرهاق الجسمي - كما قلنا من قبل - وإنما الملل والسأم، والشعور بأنه مجرد «ترس» في آلة ضخمة لا يعرف أولها ولا آخرها، وبأنه جزء ضئيل من كل أكبر لا يفهمه ولا يعرف حدوده. وبالاختصار فالمشكلة تنحصر إلى حد بعيد في أن العامل لا يعرف النتيجة الكاملة لعمله، ولا جدال في أن المجتمعات الاشتراكية هي الأقدر على حل هذه المشكلة؛ فبالتوعية تستطيع هذه المجتمعات أن تشرح لعمالها أهدافها العامة، وتربط بين عملهم وبين حياة المجتمع من حيث هي كل شامل؛ فحين يتكشف للعامل نتاج عمله المباشر، وحين يدرك أثر عمله وعمل غيره في حياة المجتمع بوجه عام، ستخف إلى حد بعيد وطأة الجو اللاشخصي الذي تخلقه الآلة، ويزداد العامل شعورا بإنسانيته، أما في المجتمعات الرأسمالية فنادرا ما يدرك العامل طبيعة الهدف الذي تتجه جهوده إلى تحقيقه، ولو أدركه لوجد أنه هدف محدود ينتفع منه غيره، لا المجتمع ككل؛ فالهدف هو دائما زيادة إنتاج المصنع أو أرباح أصحابه، أو إرضاء حاجات الطبقة المترفة من المجتمع.
وإذا كنا قد تحدثنا عن المجتمعات الاشتراكية بوصفها أقدر من غيرها على إضفاء مزيد من الطابع الإنساني على العمل، فمن الواجب أن نضيف إلى ذلك أن المشكلات الإنسانية للعمل أقل ظهورا في الدول النامية بوجه خاص؛ ذلك لأن هذه الدول متأخرة في تطورها، ولم تمر بالتجارب المريرة الأولى التي اقترنت بالعصر الصناعي في مرحلته الأولى، ومن هنا كانت نظرتها إلى التصنيع أكثر تفاؤلا، بل إن التصنيع يمثل - في واقع الأمر - أملها الحقيقي في مستقبل أفضل.
ومن جهة أخرى فإن النهضة الثقافية للدول النامية ترتبط بمرحلة التصنيع ارتباطا وثيقا؛ فالعهود السابقة على التصنيع - وهي الاحتلال الاستعماري وما يرتبط به من استغلال وجهل وتخلف - ليست بالعهود التي تستحق أن تتحسر عليها هذه البلدان، وعلى عكس البلاد الأوروبية التي كانت تجد في ماضيها الإقطاعي عناصر مضيئة تدفع بالبعض إلى التشاؤم من مستقبل المجتمع في ظل الصناعة، فإن البلاد النامية تدخل عهد الصناعة وهي مؤمنة بأن نهضتها الحقيقية متوقفة عليه، ومتحررة تماما من كل قيد يشدها إلى الماضي.
وأخيرا فإن البلاد النامية إذا بدأت دخول عصر التصنيع في ظل نظام اشتراكي، ففي وسعها عندئذ أن تتخلص من كثير من المسائل غير الإنسانية للنظام الرأسمالي، وتمر بتجربة جديدة، هي تجربة يتمشى فيها السير نحو التصنيع مع السير نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، ويدرك فيها العامل - منذ بداية الأمر - نوع الأهداف الاجتماعية الشاملة التي سيشارك في تحقيقها بعمله، وبذلك يصطبغ عمله منذ البداية بصبغة إنسانية واعية.
عقبات في طريق العلوم الإنسانية1
كان ازدهار الدراسات الإنسانية - وما يزال - مرتبطا على نحو وثيق بالأزمات التي يمر بها الإنسان نفسه؛ ففي كل عصر يجد فيه الإنسان نفسه أمام مفرق طرق حاسم، أو يرى نفسه عاجزا عن مواجهة تحديات أقوى منه وأبعد عن سيطرته، أو يشعر بأن زمام الأمور أوشك على الإفلات من يده، وبأن هناك قوى عاتية لا سلطان له عليها، توشك أن تؤدي إلى الدمار، في كل عصر كهذا كان الإنسان يعود إلى نفسه باحثا منقبا، وكان يقنع نفسه بأن حل مشكلاته يكمن في داخله وفي فهمه لنفسه قبل أن يكمن في الطبيعة الخارجية. وهكذا كانت الأزمات السياسية والكوارث المتلاحقة التي مرت بها أثينا في عصر سقراط مرتبطة باتجاهه إلى بحث النفس الإنسانية في عبارته المشهورة «اعرف نفسك»، وكانت أزمة العلم الطبيعي والهزة العنيفة التي أحدثتها الكشوف الفلكية في أوائل العصر الحديث مرتبطة باتجاه ديكارت إلى البحث في أعماق الذات الإنسانية، واستهلال عهد جديد للفكر الفلسفي، يدور حول المعرفة الإنسانية والمنهج الذي ينبغي أن يتبعه العقل الإنساني للوصول إلى الحقيقة، وهو العهد الذي كانت ترمز إليه عبارته المشهورة «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وكانت العلاقات الاجتماعية اللاإنسانية التي أدى إليها انتشار الثورة الصناعية في أوروبا، هي الأصل في ظهور ذلك الفهم الجديد للمجتمع الذي نادى به ماركس، وأصبح منذ ذلك الحين عاملا رئيسيا من العوامل التي تحدد شكل مجتمعنا المعاصر، وكانت الأزمة التي أحدثتها العلوم البيولوجية في القرن التاسع عشر، وإدراك الروابط الوثيقة بين طبيعة الإنسان الحالية وبين أصوله الحيوية الأولى، من العوامل التي ساعدت على تحول دراسة النفس الإنسانية في اتجاه جديد بفضل التحليل النفسي عند فرويد، كما كانت الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى في الثلاثينيات من هذا القرن قوة دافعة لمزيد من التعمق في الدراسات الإنسانية، ولظهور نظريات ومناهج جديدة فيها، وأخيرا فإن أزمة الحرب والسلام التي يمر بها العالم في أيامنا هذه والتهديد الدائم الذي يتعرض له أول جيل بشري أصبح يملك بالفعل من أدوات الدمار ما يكفي لإفناء الحياة على سطح الأرض، هذه الأزمة قد أدت إلى مراجعة جذرية لكثير من مفاهيم العلوم الإنسانية ونظرياتها، وإلى بذل محاولات دائبة من أجل تحقيق نوع من التوازن بين فهم الإنسان لنفسه، وبين السيطرة الهائلة على الطبيعة التي حققتها التكنولوجيا المعاصرة.
خلال هذا التاريخ الطويل، كانت دراسة الإنسان تزداد تعمقا في كل مرحلة، وكان لا بد للرواد الذين مهدوا الطريق لسير هذه الدراسة في طريق العلم من أن يكافحوا من أجل التغلب على عقبات كانت كفيلة بأن تحول دون ظهور أية معرفة علمية بالإنسان، وعلى الرغم من أن هذه العقبات معروفة، وكثيرا ما يرد ذكرها - كلها أو بعضها - في المقدمات التي تكتب للمؤلفات الخاصة بمناهج البحث في العلوم الإنسانية، فإنا لا نرى بأسا من أن نعرض هنا لأهمها؛ وذلك نظرا إلى ما يلقيه هذا الموضوع من ضوء على المشكلات التي نود أن نناقشها في هذا المقال: (1)
Page inconnue