Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
) - لم تكن معروفة عند اليونانيين، أو كانت تطبق بصورة بدائية وعلى نطاق ضيق إلى أبعد حد، وإنما كان الشائع استخدام الأرقاء في الحرف اليدوية الصناعية أو في الأعمال المنزلية؛ فكان الصناع القادرون يجلبون الأرقاء ويدربونهم ، آملين أن يتقاعدوا آخر الأمر ويعيشوا سنوات شيخوختهم على حصيلة عمل أرقائهم، وقد تحدث سقراط عن خمسة من معاصريه كانوا يعيشون عن سعة بفضل استغلالهم لجهود أرقائهم، كذلك كان تشغيل الأرقاء في الصناعة من صور الاستثمار المعروفة التي يلجأ إليها الأغنياء، وقد أدرج سقراط الأرقاء مع الأرض والعقار بوصفها مصادر تجلب دخلا بلا عمل.
3
ولو تأملنا كتابات فيلسوفي اليونان الكبيرين وهما أفلاطون وأرسطو؛ لوجدناها تتضمن دفاعا حارا عن نظام الرق، وهو دفاع إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تأصل هذا النظام في حياة اليونانيين في ذلك العصر؛ ففي محاورة «الجمهورية» يعدد أفلاطون مساوئ الديمقراطية، وهي نظام الحكم الذي كان بغيضا لديه، ويرى أن أبرز هذه المساوئ هو التطرف في الحرية التي تصل إلى حد الفوضى، ثم يقول: «على أن أقصى ما تصل إليه الحرية في مثل هذه الدولة، هو أن يغدو الأرقاء من الرجال والنساء الذين يشترون بالمال متساوين في حريتهم مع أسيادهم الذين اشتروهم.»
فالمساواة بين الرقيق وسيده في النظام الديمقراطي هي - في رأي أفلاطون - أكبر عيوب هذا النظام، أما أرسطو فله نص مشهور في كتاب السياسة (الكتاب الأول، الفصل الرابع) يقول فيه: «إن للآلات أنواعا متباينة؛ فمنها ما هو حي، ومنها ما هو غير حي، ففي الدفة يجد قائد السفينة آلة لا حياة فيها، أما الحارس فهو آلة حية ... والخادم نفسه آلة لها الأفضلية على كل الآلات الأخرى؛ إذ لو كانت كل آلة قادرة على إنجاز عملها، فتطيع إرادة الآخرين أو تتوقعها، كتماثيل ديدالوس أو كراسي هفايستوس الآلية ذات الأرجل الثلاثة، التي يقول الشاعر إنها «دخلت من تلقاء ذاتها مجلس الآلهة»، ولو كان في وسع النول أن ينسج والريشة أن تضرب العود دون أن تمسها يد، لما احتاج أصحاب العمل إلى خدم، ولما احتاج السادة إلى عبيد» (1253ب).
ولقد تصور البعض أن أرسطو - بعبارته الأخيرة - كان يشير إلى أن نظام الرق سيظل ضروريا ما دامت الآلات لم تبلغ المرحلة التي يمكنها فيها القيام بحركاتها تلقائيا، وأنه كان بذلك يبرر الرق على أساس الضرورة العملية البحتة، لا لأنه مقتنع به.
ولكن سياق النص يدل بوضوح على أن أرسطو إنما يشير هنا إلى أساطير خيالية، وأنه يؤكد بذلك نظام الرق ويدعمه؛ لأن هذا النظام في رأيه لا يمكن أن يزول إلا إذا تحقق المستحيل، ودبت الحياة في الجمادات، وأصبحت الأساطير حقائق واقعة.
وإذن فقد كان أفلاطون وأرسطو متحمسين لنظام الرق، وكلاهما حاول أن يقدم له أقوى أساس ممكن من المبررات العقلية، وتلك في واقع الأمر ظاهرة غريبة حقا عند هذين الفيلسوفين الكبيرين؛ ذلك لأنهما لم يتركا صغيرة ولا كبيرة إلا وقاما بتحليل وتشريح دقيق لها، وقد بلغ تفكيرهما درجة من التجريد والقدرة على التحليل لم يبلغها الفكر طوال تاريخ البشرية إلا في حالات نادرة، وكان كل منهما ناقدا لعصره، ولكل منهما أبحاثه العميقة في الأخلاق والسياسة وأمور المجتمع، وكم تحدثا عن الفضيلة والعدالة وكرامة الإنسان وبلوغه كماله وتحقيقه الغاية المقصودة منه، فكيف بعد هذا كله تغيب عن نظرهما ظاهرة واضحة الظلم كالرق؟ وكيف يتحدث أرسطو عن الرقيق بوصفه «ذلك الذي هو بالطبيعة شخص لا يملك ذاته، بل يملكه شخص آخر؟» كيف يتحدث على هذا النحو دون أن تدفعه حاسته الأخلاقية «المرهفة» إلى الوقوف عند هذا الوضع الشائن للإنسان، وكيف يمضي بعدها مباشرة إلى تبرير نظام الرق وإثبات أنه متفق مع الطبيعة؟ لا شك أننا نرى هنا تناقضا أساسيا بين القدرة التحليلية الدقيقة التي لم يفلت من قبضتها شيء، وبين التغاضي العجيب عن نظام مضاد تماما لكل نزعة إنسانية في الأخلاق، ولقد حاول البعض أن يدفعوا عن أرسطو وأفلاطون تهمة التناقض، مؤكدين أن هذا النظام كان متغلغلا في حياة اليونانيين إلى حد كان من الصعب معه على من يعيش في ظله - ومن اعتاده في كل لحظة من حياته - أن يتخذ منه موقف الناقد الموضوعي، وأن يتنبه إلى ما فيه من مظالم، غير أن هذا دفاع واه لا يصمد للتحليل الدقيق؛ ذلك لأنه كانت توجد في اليونان معارضة لنظام الرق ، بدليل قول أرسطو في كتاب السياسة: «إن البعض يرون أن حكم السيد علم ... وأن السيطرة على العبيد والحكم السياسي والملكي - كما قلت في البداية - كلها شيء واحد، وغير هؤلاء يؤكدون أن حكم السيد للعبيد مضاد للطبيعة، وأن التمييز بين الحر والعبد لا وجود له إلا بالقانون لا بالطبيعة، ولما كان ذلك تدخلا في مجرى الطبيعة، فإن فيه ظلما» (الكتاب الأول، الفصل الثالث)، ومن المؤسف أن أرسطو لم يذكر من هم أولئك الذين كانوا يعترضون في عصره على نظام الرق، ولكن اهتمامه بالموضوع وتخصيصه الصفحات الطوال من كتابه هذا للرد على حجج خصوم الرق، يدل على أنه كانت هناك معارضة قوية لهذا النظام، وعلى أن دفاع أرسطو - ومعه غيره من أنصار الرق - كان واعيا مقصودا لذاته.
وإذن فالسبب الأول لعدم تقدم الاختراع الآلي على الرغم من وجود عدد كبير من العوامل التي كانت في بداية العصر اليوناني الكلاسيكي تبشر بخير كثير، هو أن الحاجة لم تكن تدعو إلى توفير طاقة الإنسان؛ لأن هناك إنسانا آخر كان يبذل طاقته بدلا منه، أعني أن الآلات البشرية جعلت المجتمع اليوناني في غنى عن الآلات المادية الميكانيكية.
ومما هو جدير بالملاحظة في هذا الصدد أنه في الفترة الأولى للفلسفة اليونانية، وهي فترة الفلسفة الطبيعية التي كان الفكر النظري يسير فيها مع التطبيق العملي جنبا إلى جنب دون أن يزعم أحد بوجود تعارض بينهما، في هذه الفترة لم يكن نظام الرق قد توطدت دعائمه في المجتمع اليوناني، مما يجعل الارتباط بين الظاهرتين بمنأى عن كل شك.
على أن هناك سببا آخر ترتب على السبب السابق، وكان بدوره من العوامل الرئيسية التي أدت إلى انصراف اليونانيين عن الكشوف العملية التطبيقية؛ فقد ترتب على نظام الرق ظهور قيم معينة معادية للكشف والاختراع التكنولوجي، وكان ارتباط الرقيق بالعمل اليدوي مؤديا إلى نفور الأحرار منه، وابتعادهم عن كل ما له صلة بالسيطرة على الطبيعة المادية، وكما عمل كبار فلاسفة اليونان على تبرير نظام الرق، فقد عملوا أيضا على تأكيد مجموعة القيم التي ترتبت عليه، وهي أن العمل اليدوي لا يليق بالأحرار، وإنما ينبغي أن ينصرف هؤلاء إلى التأمل العقلي المحض، أي إلى نشاط روحي صرف لا تربطه بالمادة أدنى صلة. وهكذا وضع اليونانيون الفنون الميكانيكية في مقابل الفنون الحرة، وأكدوا أن الرجل الحر لا يليق به ممارسة الأولى، وكان أرسطو حاسما في تعبيره عن هذه القيم حين قال: إن المدينة المثلى ينبغي ألا تجعل من الصناع مواطنين فيها، وحين أكد أن المرء لا يستطيع أن يمارس الفضيلة إذا كان يحيا حياة صانع، وبالمثل كان أفلاطون من قبله من أقوى أنصار القيم التقليدية التي تؤكد الفوارق الحاسمة بين أعلى الطبقات وأدناها، وتتخذ من التفلسف النظري أشرف مهنة تليق بالأحرار، بينما تترك كل عمل له صلة بالطبيعة المادية للعبيد، وعلى عكس ما كان سائدا عند اليونانيين الأوائل من تكريم الصناع والمخترعين، فقد رأى أفلاطون أن الحرفي أو الصانع لا يستطيع اختراع شيء إلا بعد أن يتأمل صورته أو مثاله كما صنعته الآلهة، وبذلك انتزع أفلاطون الفضل من كل مكتشف ومخترع، ونسبه إلى الآلهة فحسب، ولم يقتصر على إنكار مكانة الصانع المخترع وفضله في الكشف، بل لقد أنكر عليه أيضا أي علم حقيقي في فن الصناعة؛ إذ برهن - بمنطق خداع - على أن من لديه معرفة حقيقية بأي شيء ليس هو من يصنعه، وإنما هو من يستخدمه، وأن الثاني هو الذي يصحح معلومات الأول ويضفي عليه علمه، ولقد كانت لهذه الفكرة دلالة واضحة في مجتمع قائم على نظام الرق؛ إذ لم يكن من الممكن أن يعزى إلى العبد الذي يصنع الأشياء علم يفوق علم السيد الذي يستخدمها.
Page inconnue