Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
ومع ذلك، فهل كان الطابع القومي الواضح الذي تتصف به هذه الفلسفة حائلا بينها وبين التأثر بشتى التيارات الفكرية التي كانت سائدة في عصرها وفي العصور السابقة عليه؟ إن الرأي الذي أصبح الاتفاق يكاد يكون منعقدا عليه بين الباحثين في هذا الموضوع، هو أن الفلسفة اليونانية قد استمدت عناصر أساسية من حضارات الشرق القديم، وأنها أدمجت في داخلها كل ما انتقل إليها عن طريق الاتصال الحضاري من علم هذه الحضارات وتجاربها وأفكارها، بل وعقائدها في بعض الأحيان.
ومن جهة أخرى، فقد اندمجت الفلسفة اليونانية في التراث الغربي التالي اندماجا وثيقا، وأصبحت تكون أصلا مؤكدا لتلك الحضارة التي تعرف اليوم باسم الحضارة الغربية؛ فمنذ أوائل العصر الحديث، بدأت حركة الإحياء الضخمة لتعاليم الفلسفة اليونانية، ولكن أين حدث هذا الإحياء؟ لقد حدث في بيئات وفي ظروف اجتماعية تختلف كل الاختلاف عن بيئة اليونانيين القدماء وظروفهم الاجتماعية، فأين دولة المدينة
اليونانية القديمة من الدولة الأوروبية الحديثة المعقدة؟ وأين الحياة اليونانية البسيطة من الحياة الحديثة المعقدة؟ ومع ذلك ما زال الكتاب الغربيون المحدثون يتخذون من آراء الفلاسفة اليونانيين مرشدا لهم في حل كثير من مشكلاتهم، وما زالوا يؤمنون إيمانا عميقا بانتمائهم فكريا إلى هؤلاء القدماء، أو بأن حضارتهم الحديثة قد استمدت مجموعة من أهم عناصرها من طريقة تفكير هذه المجموعة الصغيرة من الدويلات التي عاشت منذ خمسة وعشرين قرنا. (2)
ولنتناول نموذجا آخر مألوفا لدينا ، هو الفلسفة العربية، هذه الفلسفة التي صاغت لنفسها مصطلحاتها الخاصة، وحددت لنفسها مشكلات كان بعضها (كمشكلة العلاقة بين العقل والنقل أو بين الحكمة والشريعة) أصيلا فيها كل الأصالة، قد اصطبغت بصبغة محلية وقومية لا شك فيها، ومع ذلك فإن القوة الدافعة الأولى لظهور هذه الفلسفة كان تأثر المفكرين العرب بمؤلفات اليونانيين القدماء عندما نقلت إلى لغتهم، ومن جهة أخرى فإن هذه الفلسفة عندما نضجت وقدمت إلى العالم مؤلفات أصيلة وشروحا عميقة على أعمال كبار الفلاسفة اليونانيين قد انتقلت إلى الفكر الغربي وكانت دعامة أساسية من دعائم تلك النهضة العقلية والعلمية التي تميزت بها أوروبا منذ أوائل العصر الحديث، وفي الحالتين لم يكن الطابع القومي للفلسفة العربية حائلا بين العرب وبين الأخذ بتوسع من غير العرب، ولم يحاول أحد - في تلك العصور الغابرة - أن يضع تعارضا بين القومية وبين التأثر بأفكار الأمم الأخرى، أو أن يحمل على هذا التأثر بحجة أنه إقحام لعناصر «دخيلة» لا صلة لها بالظروف الخاصة للبيئة التي تحل فيها. (3)
وأخيرا فقد نشأت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فلسفة ألمانية واضحة المعالم، كان أعظم أقطابها «كانت» وشلنج وفشته وشوبنهور وهيجل، وكانت لهذه الفلسفة خصائصها المميزة لها عن سائر الفلسفات المعروفة في ذلك الحين؛ فهي فلسفة مثالية تفسر العالم كله من خلال مقولات ذهنية أو فكرية، وهي بذلك تكون تيارا متميزا لم يعرف بمثل هذا الوضوح إلا بين مفكري الأمة الألمانية وحدها، وفضلا عن ذلك فقد دعا كثير من أنصار هذه الفلسفة إلى القومية الألمانية صراحة، واشتهر من بينهم في هذا الصدد فشته وهيجل بوجه خاص، ومع ذلك فهل يمكن أن تفهم هذه الفلسفة - ذات النزعة القومية الواضحة - بمعزل عن التيار الفكري الذي بدأه ديكارت، وأضفى عليه اسبينوزا صبغة كونية شاملة، وحوله هيوم في اتجاه الشك بوجود واقع صلب يطابق المفاهيم الفكرية؟ ومن جهة أخرى فإن تأثير هذه الفلسفة الألمانية لم يقتصر على مفكرين ممن ينتمون إلى نفس قوميتها، بل امتد إلى اتجاهات فكرية ظهرت في بلدان لا تربطها بالقومية الألمانية صلة وثيقة، كما في الوجودية الفرنسية المعاصرة التي ترجع جذورها الأولى إلى تلك الفلسفة الألمانية، وكما في الماركسية - وهي فلسفة لا قومية - ترتبط في أصلها بمثالية هيجل أوثق الارتباط.
فما هو إذن الدرس الذي يعلمنا إياه التاريخ كما عرضناه في الأمثلة الثلاثة السابقة، التي ينتمي أحدها إلى التاريخ القديم، والثاني إلى الوسيط، والثالث إلى الحديث؟ إن النتيجة الواضحة التي تؤدي إليها دراسة هذه الأمثلة، هي زيف التعارض الحاد الذي يقول به الكثيرون بين القومية والعالمية؛ فأشد الفلسفات تأثيرا - على النطاق العالمي - وأطول الفلسفات بقاء خلال الزمان، هي فلسفات نشأت في ظروف قومية معينة، واصطبغت بصبغة محلية خاصة، ولكن الإنسان عرف كيف يجد فيها أفكارا تتجاوز نطاق الأصل الذي نشأت منه، وتعلو على حدود الوطن الذي ظهرت فيه، ومن المؤكد أن الفكرة التي نقول بها - وأعني بها عدم التنافر بين القومية والعالمية - تزداد دعائمها رسوخا بمضي الزمان؛ إذ إن التجارب الإنسانية تزداد على الدوام تقاربا بفعل عوامل تكنولوجية وحضارية لا نجد ما يدعونا هنا إلى الإشارة إليها؛ لأنها معروفة ومألوفة للجميع؛ فالفواصل والحواجز الفكرية بين الأمم تتساقط بالتدريج، والاتجاه العقلي أو الفني أو الأدبي الواحد يفرض نفسه على بيئات متباينة كل التباين، وينتشر في أرجاء الأرض دون أن يجرؤ أحد على أن يوصد في وجهه أبواب بلده أو يحول دون ذيوعه في بيئته، وبعبارة أخرى فالظروف الخارجية لحياة العالم المعاصر تؤدي إلى إسقاط الحواجز بين القومية والعالمية - حتى النووية - إلى التوحد سياسيا وفكريا، سواء شاء أم لم يشأ؛ إذ إن هذا هو البديل الوحيد عن الفناء التام، وسواء أصح هذا التنبؤ أم لم يصح، فلا جدال في أن العالم سيشهد - خلال الأجيال القليلة القادمة - تعديلات أساسية على مفهوم القومية، ربما لم تخطر من قبل على بال البشر طوال تاريخهم المعروف.
ولننظر إلى المسألة من زاوية أخرى، فنقول إن البشرية - بعد أن دخلت عصر الصواريخ، وأوشكت على دخول عصر الانتقال إلى الكواكب الأخرى - ستجد نفسها مضطرة - بحكم الظروف الحتمية - إلى الإقلال من أهمية الحواجز القومية بالتدريج، ولن نتحدث هنا عن النفقات والجهود والأبحاث التي يقتضيها انتقال الإنسان من كوكبه الأرضي إلى الكواكب الأخرى، والتي تبلغ من الضخامة حدا يتجاوز نطاق قدرة أية دولة بعينها، ويقتضي تضافرا بين البشر أجمعين، وإنما نود أن نشير إلى موقف لا أشك في أن الإنسان سيواجهه في وقت ليس بالبعيد؛ فعندما يطل الإنسان على أرضنا هذه من كوكب كالمريخ أو حتى من القمر، فهل يشك أحد في أن مثل هذا الإنسان، ومعه كل العالم الذي سيقف مبهورا أمام الكشف الجديد، سينظر إلى الأرض نظرة تعلو على تخطيطات الحدود السياسية أو الفوارق الضئيلة في الصفات العنصرية؟ ألن تصبح وحدة تفكيره عندئذ هي الكوكب الواحد، بعد أن كانت في أقدم العصور هي القبيلة والعشيرة، ثم أصبحت المدينة، ثم تحولت إلى الدولة في عصرنا الحالي؟ تلك كلها احتمالات حقيقية ينبغي أن نفكر فيها جديا؛ لكي ندرك طبيعة العصر الذي نحن مقبلون عليه.
وإذن فهناك - كما قلت - ظروف خارجية حتمية تؤدي بالإنسان - سواء شاء أم لم يشأ - إلى تجاوز التعارض بين القومية والعالمية، ولا بد أن تستجيب كل مجالات النشاط الإنساني - من فن وأدب وعلم وفكر - لهذه الظروف الحتمية، ولكنني أحسب أن الفلسفة ستكون أسرع هذه المجالات كلها استجابة لهذه الظروف؛ ذلك لأن الفلسفة تميل بطبيعتها إلى العمومية والشمول، واتجاهها الأصيل إنساني قبل أن يكون قوميا. إن الفلسفة مبحث عقلي، والعقل هو أساس التوحيد بين البشر، وهو ينزع تلقائيا إلى تجاوز الفوارق الضيقة، ولا يعرف له حدودا إلا «عالم الإنسان» بما هو كذلك. وليس معنى ذلك أن العنصر القومي مفقود تماما في الفلسفة، وإنما معناه أن هذا العنصر إنما هو الإطار الذي يضفي هيكلا خارجيا على مضمون لا يمكن بطبيعته إلا أن يكون إنسانيا؛ فاعتماد الفلسفة على العقل هو إذن العامل الرئيسي الذي يجعل الصفة الإنسانية العالمية تغلب فيها على الصفة القومية، وإن يكن لهذه الأخيرة دون شك وجودها الأصيل.
فإذا كانت الفلسفة - كما قلنا - تتألف من مضمون إنساني عام، قوامه العقل الذي هو عنصر التوحيد في حياة البشر، ومن شكل أو إطار قومي، يمكن أن تتباين أحواله من شعب إلى آخر، فلا بد لكل فهم سليم للفلسفة من أن يتضمن هذين العنصرين معا، ومع إدراك الاتجاه الواضح إلى العالمية ولا سيما في العصر الحديث. ومعنى ذلك أن كل فهم للفلسفة يقتصر على العنصر القومي وحده، أو يؤكد العنصر العالمي وينفي العنصر القومي نفيا تاما، لا بد أن يقع في أخطاء أساسية، فلننتقل إذن إلى بيان أخطاء كل من هذين الاتجاهين المتطرفين.
أخطاء النزعة القومية المتطرفة
Page inconnue