Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
نستطيع - في ضوء التحليل السابق - أن نستخلص رأيين أساسيين في طبيعة التطور الفلسفي، يمكن تلخيصهما بوجه عام بأنهما رأي يقول بأن هذا التطور يفتقر إلى كل نظام، ورأي آخر يقول إنه تطور منتظم، وسوف نعرض أمثلة لكل من هذين الرأيين، وتعد هذه الأمثلة بالفعل تطبيقا عمليا للمناقشة العامة السابقة.
نظريات الانفصال
الرأي القائل بعدم انتظام التاريخ الفلسفي يمكن أن يكون راجعا إلى أسباب مختلفة، من أهمها وأوضحها بطبيعة الحال عدم وجود معلومات كافية عن التطورات الفلسفية السابقة، وهكذا كانت الحال عند بداية الفترة الحديثة في كتابة التاريخ الفلسفي في عصر النهضة الأوروبية؛ فلم تكن هناك من المواد أو من الدراسات النقدية ما يسمح بتكوين نظرة جامعة إلى التاريخ السابق، أو بإدراك الخطوط الكبيرة التي يسير فيها التطور الفلسفي؛ ولذلك كانت دراسة الفلسفة في ذلك الحين هي دراسة لشيع أو طوائف منفصلة، وكانت طريقة عرض الفلسفات السابقة هي طريقة السرد أو الرواية، ومن الواضح أن هناك تشابها بين هذه الطريقة وبين الطريقة القديمة في كتابة التاريخ بمعناه العام؛ إذ كان المؤرخون القدماء - كما هو معروف - يسردون الوقائع في تتابعها الزمني دون أية محاولة لاستخلاص تيارات عامة فيها، ودون كشف للعلل المتحكمة في مسار هذه التيارات، أما الطريقة الحديثة في بحث التاريخ، فتحتاج إلى مقدار من التعمق، وكذلك إلى قدر من المعلومات والوقائع، لا يتوافران لدى المؤرخين القدماء.
ومن الواضح أن هذه النظرة التجزيئية إلى تاريخ الفلسفة تؤدي إلى الحط من مكانة الفلسفات السابقة؛ إذ إنه كلما تعددت المذاهب وتناقضت ردودها وإجاباتها، كان ذلك مؤديا إلى المزيد من الشك في قيمتها، ما دامت كل منها تعد منفصلة تماما عن الأخريات، وهكذا كان الكثير من مؤرخي الفلسفة في هذه الفترة - بل من الفلاسفة أنفسهم - ينتهون إلى اتخاذ موقف الشك في قيمة الفلسفة بوجه عام (مونتني، بيكن).
على أن هذا القول بعدم انتظام مسار التاريخ الفلسفي لم يكن راجعا فقط إلى العجز عن تكوين نظرة عامة بسبب قلة المواد المعطاة أو نقص المعلومات المتوافرة، وإنما يمكن أن يكون له سبب مضاد ، فإذا توافرت المواد أكثر مما ينبغي، وإذا ازداد التخصص بحيث يركز الباحث جهوده كلها على فترات محدودة قصيرة الأمد، أو على مشكلات خاصة ضيقة النطاق، فعندئذ ينصرف بطبيعة الحال عن إصدار الأحكام العامة الشاملة على فترات تاريخية كبيرة، ويرى في هذه الأحكام خروجا عن روح البحث العلمي الدقيق بالمعنى الذي يفهمه لهذه الكلمة، ولهذا الاتجاه أهمية كبيرة في الفترة الحالية من تاريخ الأبحاث الفلسفية؛ حيث يزداد التخصص بين الباحثين ويعد في كثير من الأحيان شرطا أساسيا للبحث السليم، وكلما أراد المرء التعمق في أبحاثه؛ وجد نفسه مضطرا إلى تضييق نطاق هذه الأبحاث، بينما ينظر إلى الأبحاث الواسعة النطاق على أنها سطحية، وحتى لو أتيح له التعمق في عدة مذاهب تنتمي إلى فترات مختلفة، فإن هذا التعمق ذاته كفيل بأن يكشف له عن اختلافات أساسية بينها يستحيل ردها إلى عنصر مشترك، ويجعله يخشى إصدار الأحكام العامة التي قد يكون فيها تزييف للتاريخ وضياع للدقة التي اعتادها في بحثه.
وهناك أخيرا سبب ثالث لامتناع الباحثين عن القول بوجود انتظام في التاريخ الفلسفي، ذلك السبب هو النزعة الثورية؛ ففي الفترات التي تشتد فيها الثورة على القديم، يقلل المفكرون من شأن الماضي ويؤكدون أن من الواجب تركه جانبا، وتكون أبغض الأفكار إلى أذهانهم هي الفكرة القائلة بوجود ارتباط سببي بين الماضي والحاضر؛ لأنهم يريدون أن تظهر أفكارهم في صورة خلق جديد تماما يثور على الماضي ولا يكمله، وهذه هي الصفة التي كانت تتميز بها نظرة الفلاسفة في أوائل العصر الحديث - مثل ديكارت وبيكن - إلى التاريخ الماضي للفلسفة.
ومثل هذا يقال أيضا من كل اتجاه فردي حديث، يدعو إلى الثورة على القوالب الجامدة في الفلسفة، والتخلي عن الروح التعميمية المفرطة؛ ففي مثل هذه الاتجاهات، تكون الفلسفة الحقيقية وثيقة الصلة بالشخصية الفردية، وتعد مظهرا من مظاهر النشاط الباطني للنفس، بحيث إن أية محاولة لكشف اتصال واستمرار في تاريخها تكون محاولة متعلقة بالسطح الظاهري للفلسفة، لا بكيانها الباطني الأصيل، ومن أوضح الأمثلة لهذه النظرة إلى طبيعة التطور الفلسفي، رأي فيلسوف وجودي مثل ياسبرز؛ فعنده أن كل فلسفة لها أصالتها المطلقة، ولها طابعها الفردي التام، وهي لا تتكرر ولا يطرأ عليها زيادة أو نقصان، ولا يمكن أن تعدل أو تقوم بمضي الزمان، وإنما تظل لها على الدوام قدرتها على الإيحاء؛ فكل فلسفة كاملة في نطاقها الخاص؛ لأنها نتاج أصيل لوجود حر تلقائي، وفي هذه الحالة لا يكون للفلسفة من قيمة إلا من حيث هي تعبير ذاتي، له في حدوده الخاصة قيمته المطلقة التي لا تستمد من أية علاقة له بغيره من التعبيرات، أي إن كل فلسفة تبعا لهذا الرأي مقفلة على نفسها، ولا تقبل أن تكون أي مركب مع غيرها من الفلسفات.
نظريات الاتصال
هناك مجموعة أخرى من النظريات تذهب إلى عكس النظريات السابقة تماما، فتؤكد أن في تاريخ الفلسفة نوعا من الانتظام الذي قد يكون من الصعب إدراكه لأول وهلة، ولكنه موجود على أية حال، وكل ما علينا هو أن نبذل الجهد الكافي لكي نهتدي إليه.
وكان من الطبيعي أن يتحمس لفكرة التطور الفلسفي المنتظم والمتصل دعاة التقدم من الفلاسفة عند نهاية القرن الثامن عشر؛ فهم يرون أن الفلسفة - شأنها شأن كل نشاط عقلي أو مادي آخر للإنسان - قد سارت في طريق التقدم التدريجي، ابتداء من الفلسفة اليونانية التي بلغت قمتها عند سقراط وأفلاطون وأرسطو، حتى العصر الحديث الذي بلغ أعلى نقطة في تطوره عند ديكارت، مارة بالعصور الوسطى التي كانت تمثل نكسة للفلسفة .
Page inconnue