Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
ربما كنت في هذا الحديث قد ركزت اهتمامي على الجوانب السلبية، على نحو قد يتبادر معه إلى ذهن القارئ أنني لا أرى سوى الوجه القاتم من الصورة، ومع ذلك فلا بد أن أؤكد - بنفس المنهج الموضوعي الذي حاولت أن أتبعه طوال هذا المقال - أن العيوب التي تمس الجموع الغفيرة من الناس ليست عيوبا فطرية كامنة، بل هي - بالنسبة إلى ظروف معيشتهم - نتائج لا مفر منها لنمط من الحياة لا بد أن يفرز هذه العيوب. إن الأخلاق والذوق وحب الجمال ورهافة الحس ترف لا يملك الفقير المريض الجاهل أن يستمتع به، أو حتى أن يتطلع إليه، وليس لأحد أن يلوم شخصا كهذا إذا كانت حياته تسودها اللاأخلاقية والغلظة والجلافة وبلادة الحس.
ومع ذلك وبالرغم من قسوة الظروف التي تمر بها جموع الناس في بلادنا ، فإن لديهم رصيدا من الأخلاقية ما أحرانا أن نعمل على استغلاله بقدر ما وسعنا من جهد؛ فعلى أدنى المستويات بين أبناء شعبنا نجد من صفات المروءة والشهامة وحب الجار والمبادرة إلى نجدة الضعيف ونصرة المظلوم ما يمكن أن يكون نواة لنهوض أخلاقي رائع، لو وجد أمامه الظروف المواتية، ومهما قيل عن هذه الصفات من أنها أثر من آثار الحياة الريفية المتأصلة في نفوسنا، فإن هذا لا ينفي أنها من الوجهة الموضوعية موجودة بين أبناء شعبنا بقدر لا تتوافر به لدى أبناء شعوب أخرى كثيرة، وأنها يمكن أن تكون نقطة بداية ارتقاء أخلاقي ومعنوي لا حد له، ولكن لكي يتحقق هذا الارتقاء، لا مفر من أن يتوافر الشرطان اللذان حرصنا في هذا المقال على إبرازهما بوضوح كامل، وأعني بهما - من الناحية المادية - تهيئة الظروف الموضوعية التي لا تتحقق بدونها أية نهضة أخلاقية، والتي تتجاوز نطاق الوعظ والإرشاد المعنوي البحت، بل تتجاوز نطاق الأخلاق ذاتها وتتغلغل في صميم حياة المجتمع وعلاقاته المادية، ومن الناحية المعنوية امتداد تأثير القدوة الحسنة من أعلى المستويات إلى أدناها، وانتشار الأمثلة الرائعة للسلوك الأخلاقي الثوري من النماذج التي يود الجميع محاكاتها إلى القاعدة العريضة من جموع الناس.
بين التعليم وقيم المجتمع1
في اعتقادي أن أية مناقشة جادة لمشكلات التعليم، إذا ما سارت إلى مداها الطبيعي، وامتدت إلى أبعادها المنطقية، لا بد أن تفضي آخر الأمر إلى مناقشة أسلوب حياتنا في أعم صوره، ولا بد أن تنتقل من المنظور الضيق للمشكلات التعليمية على وجه التخصيص إلى المنظور الأوسع لمشكلاتنا الاجتماعية في المرحلة الراهنة من تاريخنا.
والقضية التي أود أن أدافع عنها في هذا المقال هي أن كل مشكلة رئيسية في ميدان التعليم إنما ترتد في نهاية الأمر إلى مشكلة تنتمي إلى صميم حياة المجتمع، وأن التعليم بهذا المعنى ليس إلا الوجه الذهني للمجتمع بكل ما فيه من خير وشر، ومن تقدم أو تخلف، وأن تشخيصنا لحالة التعليم إنما هو في واقع الأمر تشخيص لحالة مجتمعنا منعكسة على مرآة هذا المرفق الحساس.
وليس من الصعب أن يقدم المرء أدلة وشواهد تثبت صحة هذه القضية، بل إن الصعوبة ربما كانت تكمن في اختيار أوضح الأمثلة من بين ذلك العدد الهائل من المشكلات التي تثبت كلها ارتباط أحوال التعليم بأوضاع المجتمع، وعلى أية حال فإن عددا قليلا من الأمثلة الدالة يكفي لكي يثبت أن انتباهنا الراهن إلى عيوب التعليم ينبغي - منطقيا - أن يفضي إلى وعي أوسع بالأصول الاجتماعية التي تولدت عنها هذه العيوب، ومن ثم فإن مناقشاتنا المتعلقة بالتعليم ينبغي أن تجمع - إلى جانب النواحي الفنية المتعلقة بالعملية التعليمية - مناقشات أوسع مدى عن وضع التعليم في الإطار الاجتماعي العام. وفي كلمة موجزة فإن السؤال: كيف نصلح التعليم؟ لن يجاب عنه إجابة وافية إلا في ضوء السؤال: ما الهدف الذي نرسمه لحياتنا؟ وما نوع المجتمع الذي نريد أن نصبحه في المستقبل؟
إن بناء الهيكل التعليمي يرتكز على قاعدة عريضة هي التعليم الابتدائي، وينتهي إلى قمة ضيقة هي التعليم الجامعي، والمشكلة الكبرى عند القاعدة هي الفاقد التعليمي، الذي يتمثل في أمور من أهمها عدم إقبال الجماهير - ولا سيما في الريف - على الفرص التعليمية المتاحة لهم، أما عند القمة فإن المشكلة هي التزاحم الشديد والتنافس العنيف على الالتحاق بالجامعة، ومن المستحيل أن نفهم كلا من هاتين المشكلتين ما لم نردها إلى أصولها في القيم السائدة في المجتمع.
فظاهرة عدم إقبال الآباء في الريف على تعليم أبنائهم تعكس الرغبة في الانتفاع المباشر من الأبناء بوصفهم مصدرا للدخل أو للإنتاج في الأسرة، وهذه الرغبة ربما لم تكن إلا تعبيرا ساذجا عن ظاهرة مماثلة تصدق على المجتمع ككل، وأعني بها عدم الاعتراف الكافي بالتعليم بوصفه أفضل أنواع الاستثمار، أو لنقل بعبارة أدق إن الريفي الذي لا يؤمن بما يمكن أن تقوم به المدرسة في تكوين مستقبل أبنائه وأسرته هو صورة مصغرة للمجتمع الذي لا يعطي التعليم حقه الكافي من حيث هو استثمار للمستقبل، ويفضل عليه أنواعا أخرى من الاستثمار (وفي بعض الأحيان من الاستهلاك) المباشر.
أما ظاهرة التزاحم على التعليم الجامعي، فإنها توصف عادة بأنها انعكاس لقيم تحتقر العمل اليدوي أو المهن ذات الطابع العملي البحت، وتعبر عن تطلعات اجتماعية يرضيها ذلك الاستقرار الذي تحققه الوظائف الممنوحة للجامعيين، فضلا عن ارتفاع المستوى الأدبي الذي يضفيه اللقب الجامعي على صاحبه، ولكن ألم يكن المجتمع ذاته هو الذي شجع إلى حد بعيد على سيادة هذه القيم، حين أتاح للجامعي من فرص الارتقاء ما لم يتحه للعامل أو الفني، وحين عمل على تحويل المعاهد الفنية إلى كليات جامعية، مؤكدا بذلك ضمنا ارتفاع قيمة التعليم الجامعي بالقياس إلى كل ما عداه من أنواع التعليم؟ في هذه الحالة بدورها نجد أسلوب التفكير والتقييم السائد لدى الأفراد انعكاسا لأسلوب أوسع منه نطاقا، تعمل الدولة ذاتها - بطريق مباشر أو غير مباشر - على نشره في المجتمع. •••
فإذا انتقلنا من الهيكل التعليمي إلى العملية التعليمية، تمثلت لنا المشكلة بصورة صارخة في العلاقة بين الطريقة والمضمون، أو بين الأساليب التربوية والمادة التعليمية، ولعل من أوضح الأدلة على حدة هذه المشكلة، إن التربويين يؤكدون أن آفة التعليم عندنا هي عدم إبدائه اهتماما كافيا بالطرق التربوية السليمة، وعدم تطبيق الأجهزة التنفيذية لنتائج أبحاث التربويين، في حين أن كثيرا من المعنيين بشئون التعليم يؤكدون - على عكس ذلك - أن ما يعاني منه التعليم في بلادنا هو الاهتمام المفرط بالأساليب التربوية، أي بالطريقة على حساب المضمون.
Page inconnue