Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
مجمل القول أن هناك أحكاما تنتقل من الخاص إلى العام، وأخرى تبدأ من العام وقد تنتهي إلى الخاص، وإذا كانت الأحكام الأولى وحدها هي التي تستوفي الشروط الدقيقة لمنهج الاستقصاء العلمي، فليس معنى ذلك أن الأحكام الثانية ينبغي أن تكون خارجة عن نطاق العلم لمجرد كونها غير خاضعة بطبيعتها لأمثال هذه الشروط.
ولعل ما أرمي إليه يزداد وضوحا إذا ما تأملناه في ضوء الإطارين الرئيسيين اللذين يتم من خلالهما إصدار الأحكام العامة على «الشخصية المصرية» على وجه التحديد.
أول هذين الإطارين هو الإطار الجغرافي، ولعلنا نعرف جميعا تلك المحاولات المتعددة التي بذلت للربط بين سمات معينة في الشخصية المصرية وبين الطبيعة الجغرافية لبلادنا، وهي محاولات كان من آخرها ومن أكثرها امتيازا محاولة الدكتور جمال حمدان في كتابه عن شخصية مصر.
والآن فبأي منهج من المناهج الاستقصائية يمكن التحقق من صدق الحكم القائل - مثلا - إن الاشتغال بالزراعة ، والاعتماد فيها على الري النهري، كان له تأثيره في تحديد سمات شخصيتنا المصرية؟ وهل إذا لم نجد منهجا كهذا، يكون ذلك سببا كافيا للاعتراض على القيمة العلمية لمثل هذا الحكم؟ في اعتقادي أن المنهج الوحيد الممكن في مثل هذه الحالة هو اختبار مدى الاتساق بين المقدمات والنتائج، ومقدار أحكام وتماسك القضايا القائلة بأن هذا العامل الجغرافي أو ذلك يمكن بالفعل أن يؤدي إلى هذه السمة أو تلك، وهذا منهج فلسفي ومنطقي قبل كل شيء.
ولكن الإطار الثاني لهذا النوع من الأحكام العامة على «الشخصية المصرية» أهم في رأيي بكثير، ذلك هو الإطار التاريخي، الذي هو الدعامة الأساسية لكل حكم عام يشير إلى سمة معينة من سمات ذلك الكيان الجماعي المسمى بالشخصية المصرية، بل إنني لأعتقد أن كل الظواهر السابقة تكتسب داخل هذا الإطار التاريخي مزيدا من التأكيد والتأييد؛ فحين نقول مثلا إن الحزن سمة مميزة للأعمال الأدبية والفنية الشعبية، نزداد اقتناعا بحكمنا هذا إلى حد بعيد إذا تبين أن هذه السمة ظلت تميز هذه الأعمال طوال فترات التاريخ السابقة المعروفة لدينا، وحين نستخلص صفة «الاتكالية» من أمثالنا ومأثوراتنا الشعبية الشائعة حاليا، ثم نجد أنها كانت صفة مميزة لنظائرها في كثير من العهود السابقة، يكون ذلك دعما لصحة استنتاجنا السابق، بل إن الإطار الجغرافي بدوره يمكن أن تزداد أحكامنا المتعلقة به تأكيدا إذا وضعناها في إطار تاريخي؛ فحين يكون للسمة التي نحكم - لأسباب جغرافية - بوجودها في الشعب المصري استمرار خلال التاريخ، يكون في ذلك تأكيد واضح لصحة التعليل الجغرافي الذي نقول به، على حين أن هذه السمة لو كانت تظهر خلال التاريخ ظهورا غير منتظم، لكان من حقنا أن نشك في قيمة هذا التعليل الجغرافي أصلا.
وإذن فالبعد التاريخي حاسم في دراسات الشخصية المصرية، وذلك أمر تقضي به طبيعة الأشياء ذاتها؛ إذ إن بلدا عريق التاريخ كمصر يشكل مجالا خصبا للتفسير التاريخي للظواهر، ولكن بأي نوع من المناهج العلمية الدقيقة نستطيع أن نتحقق من صحة الحكم الذي نصدره على سمة معينة حين نجدها تتردد في كتابات المؤرخين ترددا واضحا، أو حين تشهد بها وثائق تاريخية تنتمي إلى عصور طويلة متباينة؟ أو بعبارة أخرى: هل تستطيع المناهج المستخدمة في علوم الأنثروبولوجيا الاجتماعية أو الحضارية، أو في علم النفس بفروعه واتجاهاته المختلفة، أن تزودني بالأداة التي أستطيع بها التأكد من صحة أو عدم صحة الحكم الذي يعتمد أساسا على شهادة السوابق التاريخية؟ وإذا لم تكن تستطيع أن تزودني بالأداة التي أستطيع بها التأكد من ذلك، فهل يعني ذلك أن مثل هذا الحكم ينبغي أن يستبعد بوصفه حكما لا يستوفي شروط المنهج العلمي، أم يعني أن من الواجب التوسع في شروط هذا المنهج بحيث تتسع للحكم المبني على قدر معقول من استقراء الشواهد التاريخية؟
تلك بعض الأسئلة التي استهدفت من طرحها في مناقشتي المنهجية هذه أن أوجه الأنظار إلى احتمال وجود جوانب أخرى للمنهج العلمي - مفهوما بمعناه الواسع - تجعل لمثل هذا البحث في الشخصية المصرية ما يبرره من وجهة نظر العلم.
شخصيتنا المصرية واللحظة الحاضرة
ولكن هب أننا استطعنا تبرير هذا البحث في الشخصية المصرية من وجهة نظر المنهج العلمي النظري، فهل يكون في وسعنا أن نبرره من وجهة النظر العملية؟ هل تعد اللحظة الحاضرة - التي تعاني فيها بلادنا كثيرا من مشاعر المرارة والإحباط - أنسب اللحظات للبحث في موضوع كهذا؟ ألسنا نتعرض - نتيجة لهذه الظروف - للوقوع في خطأ الانسياق وراء المشاعر المؤقتة وإصدار أحكام عامة متسرعة قد لا نكون على استعداد لقبولها على الإطلاق لو لم نكن نعيش هذه اللحظات الحرجة من تاريخنا؟ ألن يؤدي هذا البحث - حين يتم في ظروف كهذه - إلى شيء من تثبيط الهمم في وقت نحن فيه أحوج ما نكون إلى كل ما يرتفع بمعنوياتنا ويبث فينا روح الكفاح والنضال؟
لقد أشرت من قبل إلى أن الإطار التاريخي أهم الأطر التي تعالج من خلالها فكرة الشخصية المصرية، وتلك حقيقة لا جدال فيها؛ فكل من كتبوا عن مصر يؤكدون الاتصال التاريخي الفريد الذي يتسم به شعبنا، وعراقة أصل هذه الأمة، وأصالة الحضارة التي بناها المصري على أكتافه والعالم ما زال يحبو في مهده. إن تاريخ مصر العريق مصدر أعظم أمجادها، ولكن هذا التاريخ ذاته مصدر كثير من العيوب التي تهدد شخصيتنا القومية بأخطار لا مفر من أن نتنبه إليها ونعمل على تلافيها.
Page inconnue