Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
هذه الفئة من المثقفين لا ترحل عن بلادها حينما تكون الأوضاع التقليدية سائدة فيها، ولكنها تبدأ في الرحيل عندما يحدث اختلال حقيقي في التوازن التقليدي، وهذا الاختلال يمكن أن يكون نتيجة لأحد عاملين: إما حدوث تحول اشتراكي حقيقي، وإما إعادة توزيع المكاسب الطبقية بصورة جذرية.
ولعل المثل الكلاسيكي للهجرة الواسعة النطاق - التي تتم نتيجة لحدوث تحول اشتراكي حقيقي - هو ذلك الذي تمثل في كوبا بعد ثورة كاسترو؛ فقد رحل عن البلاد - في السنوات الأولى من الثورة - عشرات الألوف من المثقفين الذين كانت البلاد في حاجة حقيقية إلى جهودهم في بناء المجتمع الجديد، ولكن هؤلاء المثقفين والعلماء كانوا من ذلك النمط الشائع الذي تتركز اهتماماته السياسية والاجتماعية على قمة المجتمع لا على قاعدته، فالتحول الثوري الذي يحرم الطبقات العليا بعض امتيازاتها - وإن كان يمنح الجماهير الغفيرة حقوقها الآدمية لأول مرة - لا يعد في نظرها تحولا مرغوبا فيه؛ لأن ما يهمها هو مصير الطبقات العليا لا الدنيا.
على أن من الأمور التي تلفت النظر أن عددا غير قليل من هؤلاء المهاجرين قد أخذوا يعودون إلى بلادهم بعد أن اتضحت لهم الصورة الحقيقية للثورة، صحيح أن الفئة التي كانت مصالحها مرتبطة بالنظام البائد قد ظلت على عدائها للنظام الجديد، ولكن المثقف الشريف سرعان ما يدرك أن رفع مستوى الجماهير ككل هدف يستحق التضحية، بل هو أجدى من أية مكاسب استهلاكية تسعى من أجلها الطبقات المتوسطة والعليا.
أما الحالة الأخرى التي يهاجر من أجلها العلماء والمثقفون من ذوي التطلعات المادية، فهي التي تحدث فيها إعادة توزيع لثروة المجتمع لصالح «طبقة جديدة» تصبح هي المستمتعة بثمار عمل الجماهير الكادحة، في هذه الحالة يكون التوازن الجديد لغير صالح الطبقة المتعلمة في معظم الأحيان؛ إذ إن التكوين الطبقي التقليدي كان يسمح للعلماء والمثقفين - الذين ينتمي معظمهم إلى الطبقة الوسطى - بالمشاركة في جزء على الأقل من الرخاء الذي تستمتع به الطبقة العليا، أما التكوين الجديد فيسفر عن ظهور طبقة أكبر عددا وأشد نهما وشراهة من الطبقة العليا التقليدية، تود أن تستأثر لنفسها بكل شيء، وأن تكون الوريثة الوحيدة لكل الطبقات المستمتعة القديمة.
في هذه الحالة الأخيرة يندر أن يعود العالم المهاجر إلى وطنه؛ لأن الأمر يصبح في هذه الحالة متعلقا بتنافس طبقي يكون العالم عادة في الجانب الأضعف منه، وإذا كانت التجربة قد أثبتت أن نسبة غير قليلة من العلماء المهاجرين يعودون إلى بلادهم - بالرغم من أنها لا تشبع حاجاتهم الاستهلاكية - عندما يتيقظ وعيهم إلى طبيعة التغيير الاشتراكي الذي يعطي الأولوية لمصالح الجماهير العريضة، فإن هذه التجربة قد أثبتت أيضا أنه في المجتمعات التي لا تسفر فيها الثورات إلا عن إعادة توزيع للثروة لصالح طبقة جديدة لا ينتمي إليها العلماء أو المثقفون، دون حدوث تحول حقيقي في حياة جماهير الناس، فإن هجرة العلماء تصبح ظاهرة يكاد يكون من المستحيل تجنبها أو حصرها في حدود ضيقة. •••
على أن العلماء لا يهاجرون فقط لأسباب مادية، أعني من أجل إرضاء تطلعاتهم الاستهلاكية، بل إن هناك عوامل معنوية وعلمية تؤدي - في بلاد العالم الثالث بالذات - إلى هجرة عدد لا يستهان به من العقول.
فمن الحقائق المعروفة أن اتساع الهوة بين التقدم والتخلف العلمي يسير بمعدل متزايد باطراد، وأن نمو المعرفة يزداد بمتوالية هندسية، بحيث يؤدي وجود العلم إلى جلب المزيد من العلم بمعدل أسرع (كالمال الذي يخلق مزيدا من المال)، على حين أن نقص العلم والعلماء يؤدي - في كثير من بلاد العالم الثالث - إلى نوع من الجمود الذي يبدو تدهورا سريعا بالقياس إلى معدلات النمو المرتفعة في البلاد المتقدمة، هذا الاتساع في الهوة يبعث الخوف في العقول الواعية في العالم الثالث ويشعرها باليأس، ويزداد هذا اليأس قوة في نفوس العلماء بوجه خاص؛ إذ إن العالم يود أن يلمس ثمار جهوده أثناء حياته، وحين يجد أن طريق التقدم في بلاده ما زال طويلا إلى أبعد حد، فإنه يفضل الرحيل إلى مجتمع آخر يستطيع - في تصوره - أن يجد فيه صدى محسوسا للجهود التي يقوم بها العلماء.
على أن أقوى العوامل المعنوية التي تدفع علماء بلاد العالم الثالث إلى الهجرة، هو الشعور بالغربة داخل الوطن؛ ففي كثير من هذه البلاد تسود أساليب في الحكم وفي الإدارة يشعر معها العالم بأن الحاكمين يعادون العلم ولا يكترثون بجهود العلماء، بل إنهم يحتقرون العقل ذاته ولا يقيمون في تصرفاتهم وزنا للمنطق السليم، في هذه البلاد لا يجد العالم أمامه - حيثما ولى وجهه - إلا طرقا مسدودة؛ فالمسيطرون على البلاد يكرهون العلم، وربما اهتموا بالمحافظة على بقائهم أكثر مما يهتمون بالإنفاق على تقدم البحث العلمي وانتشار التعليم، والرؤساء المباشرون تشغلهم المناورات الشخصية وأساليب النفاق حتى لا يتبقى من وقتهم أو جهدهم قسط يسمح لهم بالتفكير في المشكلات العلمية الحقيقية، بل إنهم يحاربون المخلصين المتفانين في عملهم؛ لأن نوع القيم الأخلاقية التي تصدر عنها تصرفاتهم يختلف عن قيمهم الخاصة ويستحيل أن يلتقي معها في أي موضع.
في مثل هذه البلاد قد يكون المهاجر إنسانا وطنيا مخلصا، حاول أن يناضل في مجاله الخاص بقدر ما يستطيع، فلم يصل إلى شيء، وحاول أن يقنع الناس بجدوى عمله فلم يجد حوله إلا من تشغله مصالحه الشخصية عن المشكلات العامة للمجتمع، وحين يجد كل الآذان حوله صماء وكل الأبواب مغلقة، لا يجد مفرا من الرحيل وهو آسف حزين على ما آل إليه أمر مجتمعه.
هذا النموذج - الذي يتكرر كثيرا في بلاد العالم الثالث - يكشف بوضوح عن مدى مسئولية هذه البلاد ذاتها عن ظاهرة هجرة العقول، التي قد لا تكون في كل الأحوال «استنزافا»، بل قد تكون «طردا» و«نفيا» إجباريا، والدليل الحي على صحة هذا الرأي هو أنه في الحالات التي يصبح فيها نظام الحكم مشجعا للعلم مقدرا لجهود العلماء، يعود كثير من هؤلاء المهاجرين ويتفانون في خدمة أوطانهم على الرغم من أن الفقر لا يزال هو السمة العامة المميزة لها، وعلى الرغم من أن الأماني الاستهلاكية ما زالت بعيدة كل البعد عن أن تتحقق.
Page inconnue