Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
على أن العناصر السلبية في تجربة التحول المباشر من التخلف إلى الاشتراكية ربما كانت هي الأحق باهتمامنا وعنايتنا؛ إذ إن عدم مواجهتها بصراحة وأمانة يمكن أن يلقي ظلالا من الشك، لا على التطبيق الاشتراكي في هذه المجتمعات فحسب، بل على الفكرة الاشتراكية ذاتها من حيث المبدأ، فإذا كانت هناك مزايا تكتسبها المجتمعات المتخلفة من انتقالها إلى الاشتراكية مباشرة، فهناك أخطار ينبغي أن تتنبه إليها هذه المجتمعات إذا شاءت ألا تولد تجربتها الاشتراكية شوهاء، وألا تصاب بنكسة تقضي على إيمان الجماهير صاحبة المصلحة الأولى في الاشتراكية بمبدأ التحول الاشتراكي ذاته.
أول هذه الأخطار ناجم عن إطار التخلف ذاته، الذي تطبق في ظله الاشتراكية؛ ذلك أن المرحلة الرأسمالية تساعد - على الرغم من كل سلبياتها - على دفع عجلة المجتمع إلى الأمام، أما المجتمع الذي لم يمر بهذه المرحلة، فلا مفر له من أن يعاني آثار التخلف فترة طويلة، ويكون كفاحه من أجل الاشتراكية مزدوجا، أعني أنه كفاح يستهدف إرساء قاعدة متينة من التقدم الاقتصادي - والصناعي في المحل الأول - كما يستهدف في الوقت ذاته تحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية، وحسبنا أن ننظر إلى المشكلة من زاوية واحدة، هي زاوية العلم؛ لكي ندرك الصعوبات التي يثيرها بناء الاشتراكية في مجتمع متخلف؛ ذلك لأن الاشتراكية في أساسها نظرة علمية إلى الأمور، وهي تقتضي انتشارا على أوسع نطاق ممكن للتعليم، وارتفاعا دائما في مستواه، ومهما كانت النوايا طيبة، فإن التراث الطويل من التخلف العلمي كفيل بأن يقف عقبة كأداء في وجه التحول السليم إلى الاشتراكية، وهكذا تعاني مجتمعات العالم الثالث في هذا الصدد توترا خطيرا بين عالمين يؤثر كل منهما في اتجاه مضاد للآخر؛ فالتخلف الطويل الأمد يؤدي إلى إبطاء معدل النمو الاقتصادي والاجتماعي بالقياس إلى المجتمعات التي تبدأ مسيرتها من نقطة متقدمة نسبيا، ومع ذلك فهي في حاجة ملحة إلى الإسراع بمعدل تقدمها؛ لأن هذا التقدم مسألة حياة أو موت بالنسبة إليها، وهو وحده الذي يضمن لها ملاحقة ركب العالم السريع التطور، وبين الحاجة إلى التطور، والعوائق الأساسية التي تبطئ من معدل هذا التطور تقف الدول المتخلفة حائرة، وتقف التجربة الاشتراكية ذاتها مهددة بالمخاطر في بلاد العالم الثالث.
ولعل أخطار التخلف العقلي والمعنوي أفدح - بالنسبة إلى العالم الثالث - من أخطار التخلف المادي والإنتاجي؛ وذلك لأن بلاد العالم الثالث لم تتح لها فرصة اكتساب ذلك الحد الأدنى من العادات العقلية المرتبطة بالتقدم الصناعي كالنظرة الموضوعية والعقلانية إلى الأمور؛ فهذه البلاد - حين تبدأ في خوض تجربة التحول الاشتراكي - تنتقل من حالة عقلية معنوية تسيطر عليها الخرافة إلى نظام اجتماعي يستحيل أن يطبق بنجاح إلا في مجتمع يؤمن إيمانا كاملا بقيمة العقل، وبأهمية التفكير الموضوعي، في تسيير دفة الأمور.
إن العقلية الريفية - وخاصة في مجتمع ظل خاضعا لسيطرة الإقطاع ردحا طويلا من الزمن - لا تستطيع أن تتخلص بسهولة من صفات وقيم تتعارض بشدة مع أي اتجاه إلى التنظيم الرشيد للمجتمع في ظل إنتاج ذي طابع صناعي؛ فالعلاقات الشخصية تظل تقوم بدور أساسي حتى في صميم المسائل المتعلقة بالعمل والإنتاج، بحيث تختلط النظرة الذاتية والنظرة الموضوعية إلى الأمور حتى على المستويات العليا للتنظيم الاجتماعي، ويتحول بطء الإيقاع - الذي تتسم به الحياة الزراعية - إلى تكاسل في المجتمع الصناعي، وإلى عدم احترام لقيمة الوقت وأهميته القصوى في الإنتاج، ويؤدي عدم وجود تراث يقدس العمل إلى إشاعة عدم الاهتمام بفضائل النشاط والمثابرة، حتى ليتساوى المنتج والخامل في نظر المجتمع، بل ربما ارتفعت قيمة الخامل إذا استطاع أن يوطد علاقاته الشخصية بأولي الأمر.
وعلى حين أن التقدم العلمي والعقلي الذي عرفته المجتمعات الغربية في المرحلة الرأسمالية قد أعان هذه المجتمعات على التخلص إلى حد بعيد من تأثير الأسطورة والخرافة، بحيث تستطيع أن تضمن تطورا لا تعوقه الجهالة ولا تكبله الغيبيات، سواء واصلت السير في طريقها الرأسمالي أم تحولت منه إلى الاشتراكية، فإن النظم الاشتراكية التي تطبق في مجتمعات العالم الثالث كثيرا ما تجد نفسها مضطرة إلى مواجهة العقلية الأسطورية قبل أن تمضي في طريقها خطوة واحدة، وتتخذ هذه المواجهة صورا متعددة، فهي أحيانا تتخذ شكل تعايش سلمي بين الاشتراكية والتفكير الخرافي، بحيث تترك الاشتراكية هذا التفكير على ما هو عليه، ولا تحاول التصدي له وكشف أخطاره، آملة أن تتمكن بذلك من كسب أكبر عدد ممكن من الجماهير إلى صفها، ولكن خطورة هذا المسلك تتضح في أن تحقيق التعايش بين نمطين - أحدهما عقلي والآخر لا عقلي - من أنماط التفكير لا يمكن إلا أن يكون انتهازية أو نفاقا رخيصا من جانب السلطة الحاكمة، فضلا عن أنه يساعد على إبقاء الجماهير في حالة تخلف معنوي لا يرجى معها أي نهوض حقيقي للمجتمع، وفي مثل هذا الجو العقلي المتناقض يستحيل أن تحقق الاشتراكية إمكاناتها وتقدم إلى المجتمع أفضل ما لديها، بل إن مثل هذه الاشتراكية لا بد أن تكون جوفاء مبتورة، أما إذا اتخذت مواجهة الاشتراكية للخرافة شكل التحدي والنزاع السافر فإن مثل هذه المواجهة الحاسمة يمكن أن تؤدي - في حالة التخلف الاجتماعي الشديد - إلى استفزاز مفرط للجماهير، يبعد بها عن طريق التعاطف مع الأيديولوجية الاشتراكية التي هي أحوج ما تكون إليها، وهكذا تجد الاشتراكية نفسها في مأزق إزاء العقلية الخرافية المنتشرة في المجتمعات المتخلفة، سواء اكتفت بالتعايش معها سلميا أم شنت حربا صريحة عليها، ومثل هذا المأزق يقتضي من التنظيم الاشتراكي جهدا هائلا من أجل الارتفاع بالجماهير فوق مستوى النظرة الخرافية إلى الأمور دون استفزاز لمشاعرها أو استعداء لها بلا مبرر.
والواقع أن من الخطأ المبالغة في تصوير خطورة التعارض بين النظرة الخرافية وبين الدفاع المتحمس عن الاشتراكية، صحيح أن طرق التفكير البالية والانسياق الأعمى وراء الجهالات يمكن أن يكون عقبة لا يستهان بها في وجه كل محاولة لتنظيم المجتمع على أسس عقلية رشيدة، ولجعل عالم الإنسان جنة أرضية، ومع ذلك فإن الحد الفاصل بين انحياز الجماهير إلى نظام اجتماعي معين أو نفورها منه هو - في نهاية الأمر - ما يقدمه إليها هذا النظام من مكاسب، وليس في هذا المعيار ما يستوجب الخجل؛ إذ إن النظام الاجتماعي الذي يعطي جماهيره مكاسب أكبر لا يقدم إليها رشوة، وإنما يحقق لها هدف الحياة على نحو أفضل، ولنذكر أن الرشوة على نطاق الجماهير العريضة مستحيلة، فضلا عن أنها تفقد معناها حين تصبح شاملة ومستمرة، أي إنه - مع تحوير بسيط للكلمة المأثورة المعروفة - فأنت تستطيع أن ترشو بعض الناس كل الوقت، أو كل الناس بعض الوقت، ولكنك لا تستطيع أن ترشو كل الناس كل الوقت، فإذا استطاع نظام اجتماعي أن يثبت للناس أنه يقدم إليهم مكاسب حقيقية لها طابع الدوام، وأن يرفع مستوى حياتهم ماديا ومعنويا بصورة لا يملك أحد إنكارها، فأغلب الظن أن التفكير اللاعقلي مهما بلغ من تأصله في نفوسهم - أو القيم العتيقة مهما بلغ رسوخها - لن يستطيع أن يقف عقبة في وجه المسيرة الاشتراكية الظافرة، أما إذا كانت الاشتراكية مترددة خائرة، وإذا كانت مكاسبها أمرا مشكوكا فيه على الدوام، فعندئذ تستطيع الخرافة أن تطل برأسها في شماتة، وتستطيع الجهالة أن تجد لنفسها - في المجتمع المتخلف أصلا - أنصارا يتزايدون باطراد.
على أن التخلف العقلي والمعنوي ليس هو العقبة الوحيدة التي تحول بين جماهير المجتمعات المتخلفة وبين السعي المتحمس إلى تحقيق الاشتراكية، بل إن هذه الجماهير كثيرا ما تكون مفتقرة إلى الوعي الاجتماعي الذي يسمح لها بإدراك ضرورة الثورة على التخلف، على الرغم من أن هذه الثورة هي التي يكمن فيها أملها الوحيد في المستقبل؛ ذلك لأن الطبقة العاملة - التي تعتمد عليها الاشتراكية التقليدية - لا تكون فئة عريضة في مثل هذه المجتمعات، فضلا عن أن هذه الطبقة لم تتح لها فرصة اكتساب الروح الثورية العميقة التي تغلغلت في نفوس عمال المجتمعات الرأسمالية بفضل تجاربهم الطويلة وتراثهم البعيد الأمد؛ فمن الصعب أن نتوقع من طبقة عاملة قليلة العدد محدودة التجارب - خرج معظم أفرادها حديثا من بيئات ريفية غير ثورية - أن تحقق كل الآمال التي تعقدها الاشتراكية الكلاسيكية على «البروليتاريا» في العالم الرأسمالي، ومن هنا فإن التجارب الاشتراكية الناجحة في بلاد العالم الثالث تجد لزاما عليها أن تعتمد على طبقات أخرى؛ فطبقة الفلاحين قد تمكنت من أن تكون العمود الفقري لثورات اشتراكية متعددة في شرق آسيا وجنوبها الشرقي، ولكن نجاح هذه الثورات كان يقتضي تنظيما عبقريا يزيل من الفلاح رواسب التواكل والاستسلام التي خلفها في نفسه نظام إقطاعي ظل يتحكم في مقدراته المعنوية والمادية ألوف السنين، كذلك فإن الطبقة الوسطى - ولا سيما القطاعات المثقفة منها - يجب أن يعطى لها دور أهم بكثير من الدور الذي يعزى إليها في المذاهب الاشتراكية الكلاسيكية، بل إن الطلبة بالذات يمكنهم أن يقوموا - في بلاد العالم الثالث - بدور لا يقل أهمية عن دور البروليتاريا في البلاد الرأسمالية العريقة، بل إن من الممكن الاهتداء إلى أوجه تشابه غير قليلة بين هاتين الفئتين، من حيث إن كلا منهما تمثل الضمير الواعي لمجتمعها، ولا ترتبط بأجهزة الحكم القائمة أو تكون جزءا منها، وليس لديها - حسب التعبير المشهور - ما تخسره إلا الأغلال، وإذا كانت بوادر الجهود الإيجابية للطلاب قد بدأت تظهر في بعض بلاد أمريكا اللاتينية، فمن المؤكد أن دورهم سيزداد ظهورا وأهمية في مناطق أخرى من العالم الثالث في المستقبل القريب.
وأخيرا فربما كان أبرز النواحي السلبية في اشتراكية العالم الثالث هو أنها - في أحيان قليلة - اشتراكية مفروضة من أعلى، وليست اشتراكية نابعة عن ثورة شعبية بالمعنى الصحيح، وربما بدا أن الفارق بين النوعين ليست له أهمية كبيرة ما دامت النتيجة واحدة، ولكن الواقع أن تجربة الثورة الشعبية تتمتع بميزة كبرى هي أنها تؤدي إلى صهر القيادات - فضلا عن القواعد بطبيعة الحال - في تجربة الممارسة الاشتراكية الحقيقية، والمشكلة الكبرى في الاشتراكية التي تنبع من القمة - لا من القاعدة - هي أنها تعتمد على صلابة الحاكمين لا المحكومين، ولكن الانحراف في الطبقات الحاكمة أمر مألوف، حيث يبدو إغراء السلطة، والافتقار إلى التقاليد الثورية الأصيلة، عاملا مشجعا على تكوين «طبقة جديدة» ربما استخدمت الاشتراكية ذاتها أداة لدعم مركزها وصرف أنظار الجماهير عن انحرافاتها، ومن هنا كانت بلاد العالم الثالث أحوج ما تكون إلى إعادة بناء نظمها الاشتراكية بحيث ترتكز على القاعدة لا على القمة، وكلما سارعت بذلك ضمنت لاشتراكيتها البقاء والازدهار.
إن بلاد العالم الثالث أحوج ما تكون إلى مواجهة نفسها مواجهة صريحة، وخاصة إذا كانت تنادي بالاشتراكية مبدأ لحياتها، وفي هذه المواجهة ينبغي عليها أن تعترف دون مواربة أنها مختلفة، لأنها بالفعل كذلك، ولن يفيدها أن تتلاعب بالألفاظ فتسمي نفسها «نامية» في الوقت الذي يكون فيه نموها متوقفا بالمعنى الصحيح، وحين تعترف بهذا التخلف ستدرك أنه يمكن أن يكون كذلك رصيدا لها وحافزا في تجربتها الاشتراكية، ولكنه في الوقت ذاته يمكن أن يكون عائقا مخيفا في وجه هذه التجربة، وحين تتضح لها المشكلات التي يثيرها تخلفها هذا، والصعوبات التي تعرقل مسيرتها نحو الاشتراكية، فعندئذ ستدرك أن التغلب على هذه المشكلات والصعوبات لن يكون بالالتجاء إلى أنصاف الحلول، بل بمزيد من الإصرار على السير في الطريق الاشتراكي والتمسك به، وإذا كان من الشائع أن يقال إن الاشتراكية الوحيدة التي تصلح لبلاد العالم الثالث هي الاشتراكية «المعتدلة»، فإن حالة التخلف التي تعانيها هذه البلاد تدعونا إلى التفكير مليا قبل إصدار حكم كهذا؛ إذ إن «الاعتدال» إذا كان صفة مستحبة في أمور كثيرة، فإنه ليس بالشيء المرغوب فيه عندما يكون الأمر متعلقا بمسيرة المجتمع نحو التقدم ونحو اللحاق بركب الحضارة العالمية.
إن على بلاد العالم الثالث أن تحدد المجالات التي يكون فيها الاعتدال مستحبا، وتلك التي لا يكون فيها مفر من الصلابة، والإصرار والسعي الدائم إلى الهدف المرسوم، وفي اعتقادي أن كل ما توصف من أجله هذه البلاد بأنها «متخلفة» ينبغي أن يدخل في هذه الفئة الأخيرة.
Page inconnue