Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
فإذا حاولنا أن ننفذ إلى شيء من المضمون الفعلي لتفكيره من وراء هذا التمزق والتناقض الذي لا يحل؛ لوجدنا فكرة أساسية تتردد في كل تعبير له عن فلسفته الخاصة، هي فكرة الحرية، ومن الطبيعي - بعد كل ما رأيناه عن تكوين برديايف النفسي ومزاجه الشخصي ونظرته العامة إلى الحياة - أن تكون فكرته عن الحرية فكرة غير مألوفة على الإطلاق؛ فهو أولا يحدد موقعها العام في فلسفته فيقول: «فالحرية هي المصدر الأول للوجود وشرطه، ولقد وضعت الحرية بدلا من الوجود في أساس فلسفتي» (ص55). ثم يبدأ في تحديد مفهوم الحرية عنده فيقول: «وقد وجدت من نفسي الشجاعة في الإعراض عن أشياء كثيرة في الحياة، ولكنني لم أتخل مطلقا عن أي شيء باسم الواجب أو خضوعا للأوامر والنواهي»؛ ففهمه الخاص للحرية إذن يعد الخضوع للواجب قيدا ثقيلا يتنافى مع الحرية الصحيحة، ويبدو هذا الفهم غريبا من الوجهة الفلسفية إذا أدركنا أن فيلسوفا مثل «كانت» يرى أن الحرية تتمثل أوضح ما تكون في أداء المرء للواجب، ويضع مجال الواجب والحرية في مقابل مجال الطبيعة والحتمية، ويزداد العجب إذا أدركنا أن برديايف - الذي ينادي بحرية يعد أداء الواجب عبودية بالنسبة إليها - من أشد المعجبين ب «كانت»، وبتمييزه الأساسي بين نظام الطبيعة ونظام الحرية.
وهو ينزع عن الحرية أي مضمون سياسي أو اجتماعي؛ فالحرية عنده «ليست ديمقراطية بل أرستقراطية، (وهي) لا تعني الجماهير الثائرة وليست ضرورية لها، بل إن عبء الحرية أثقل من أن تحتمله تلك الجماهير، والوجود الإنساني خاضع لرمزي الخبز والحرية ممزق بهما، والثورات في أغلب الأحيان ترفض الحرية باسم الخبز» (ص223). ولا مفر لي هنا من أن أتساءل: لماذا نضع هذا التقابل الأساسي بين الخبز والحرية؟ أليس الخبز ذاته حرية؛ أعني تحررا من الجوع، وهو أول أنواع التحرر، والشرط الذي لا غناء عنه لاكتساب أي نوع آخر من الحرية؟ وما قيمة الحرص على حرية الثقافة وحدها إن لم يكن الخبز موجودا، أعني إذا كانت الأغلبية جائعة؟ لنفرض أن مثقفا مخلصا خير بين هذا الأمر وذاك، فأيهما ينبغي عليه أن يختار؟ إن أفضل الأمور - بطبيعة الحال - هو الجمع بين الحريتين، ولكن ينبغي أن نذكر على الدوام أن الخبز ليس مضادا للحرية وإنما هو شرطها الأساسي، وإن على المثقف أن يحارب في سبيله مثلما يحارب في سبيل أية حرية أخرى.
ومن الطبيعي - ما دامت هذه هي طريقة برديايف في فهم فكرة الحرية - ألا يجد مكانا لنفسه بين كل جماعات الثائرين الذين نادوا بشعار الحرية في أوائل القرن العشرين. والواقع أن كتابه هذا وثيقة هامة في تاريخ الفترة التي سبقت الثورة الروسية، وكذلك الأعوام الأولى من هذه الثورة. صحيح أن هذه الوثيقة قد كتبها شخص له ميول فردية واضحة، ولكن الأهم من ذلك أنه شخص شارك في الأحداث ذاتها إلى حد ما، كتب بإخلاص وأمانة يندر أن يكتب بهما من شهد تلك الأيام العصيبة من تاريخ روسيا الحديث، ولا أدل على ذلك الإخلاص من شعور الحنين الذي يظهر في كتابه بصورة ضمنية مستترة، والذي يأبى أن يعلنه في ذلك الكتاب جهرا - أعني الحنين إلى بلاده، والرغبة الخفية في مشاركتها مصيرها أيا كان - وولائه لهذه البلاد أيام محنتها أثناء الهجوم النازي، على عكس معظم المهاجرين الروس، ونفوره الواضح من التعقيدات النفسية التي تتحكم في سلوك هؤلاء المهاجرين.
ومع ذلك فإن برديايف لم يكن من النوع الذي يقبل أن تستقر الأمور في أي وضع، حتى لو كان وضعا ثوريا تمناه هو ذاته منذ البداية، إن في نفسه عنصرا فوضويا اعترف به هو ذاته حين قال: «إن ميولي الكامنة في أعماق نفسي تتجه نحو الفوضوية» (ص307). وهذه الميول الفوضوية تجعله ينزع إلى المضي في الثورة إلى ما لا نهاية، ويرى أن الثورة التي تنجح شيء مناقض لذاته؛ لأنها ستصبح نظاما قائما ثابتا، وتفقد طبيعتها من حيث هي ثورة، ولكن الشيء الذي فاته هو أن الثورة المستمرة بدورها مناقضة لذاتها؛ إذ إنه سيتعين عليك أن تثور على ما كنت تتخذه في البداية هدفا ومثلا أعلى تسعى إلى تحقيقه، إنه يود أن يثور على كل نظام، حتى لو كان ذلك الذي دعا إليه طوال حياته؛ إذ إن لديه ميلا شخصيا إلى التمرد على كل ما هو ثابت «وقد انبثق الدافع الثوري عن عجز فطري عن الخضوع لنظام العالم والانصياع لمطالبه؛ فلهذا الدافع إذن دلالة شخصية في المقام الأول لا دلالة اجتماعية. لقد كنت معنيا بثورة الشخص الإنساني لا بثورة الشعب أو الجماهير» (ص113). وهو يزيد فكرته هذه إيضاحا فيقول: «كل ثورة سياسية تنهار بسبب انتصارها نفسه؛ فلا بد أن يكون موضوع الثورة الحقيقية هو الإنسان لا الجماهير أو السلطة السياسية، والثورة الشخصية هي وحدها التي يمكن أن تسمى ثورة»، ولكن كيف يترجم هذا الكلام إلى لغة الناس والمجتمع؟ وماذا تكون قيمته إذا حاولنا أن نطبقه على مستوى الشعوب أو الدول؟ ألا يرحب أكثر الناس رجعية بهذا الرأي الذي يريد أن يحصر الثورة في نفس الفرد وحده، ولا يقبل أي مظهر اجتماعي أو جماهيري من مظاهرها؟ لا شك أن هذه الآراء كانت كفيلة بإسعاد قيصر روسيا إلى أقصى حد، لو كانت هي التي طبقت بالفعل؛ فالثورة الفردية قد لا تتعارض قط مع الرجعية الاجتماعية، وهي دعوة لا تقبل الترجمة إلى لغة المجتمع.
على أن أكمل تعبير عن موقف برديايف من العالم هو ما يسميه بنزعته الأخروية؛ فالقوة الدافعة الأولى إلى هذه النزعة هي شعور بالسخط على العالم والسأم منه: «أهذا العالم الساقط المنكوب ... يمكن أن يمتلك واقعا صادقا أصيلا؟ أليس الإنسان مدفوعا بطبيعة الأشياء نفسها للبحث عن واقع يعلو على هذا العالم؟» وهكذا ترتبط النزعة الأخروية والدينية برفض أساسي للعالم، وبإحساس قوي بأنه لا يجد لنفسه مكانا فيه، وهو إحساس ولده الإخفاق في التكيف مع أي وضع وأي مذهب؛ فمن الطبيعي أن يلجأ ذلك المغترب في هذا العالم، إلى عالم آخر يلوذ به ويركز أفكاره فيه، ويتخذه مهربا من كل ما يراه في عالمنا من «الحقد والقسوة والأنانية» (ص286).
إن عنصر الطرافة والتشويق في هذا الكتاب هو أنه وصف بليغ دقيق وتحليل بارع لنفسية شخص أخفق تماما في التكيف مع أسرته ومجتمعه وعصره، بل مع الحياة ذاتها، ولقد ذكرت من قبل أن في كتاباته شواهد تدل على أنه كان يتمنى ألا يكون إنسانا، ويود في قرارة نفسه لو كان ينتمي إلى عالم يعلو على عالم الإنسان، ومع ذلك ففي نفسيته عنصر يصعب تعليله، وهو حبه للحيوانات، الذي وصل إلى حد بكائه بشدة عند موت قطه الأليف، وموضع الغرابة هنا أن يتمثل هذا الحب الهائل للحيوان لدى ذلك الذي كان يكره الجسد ووظائفه الفسيولوجية وينفر منهما أشد النفور، ولكن ربما كانت هذه الظاهرة تخضع لنفس التعليل، أعني كراهيته لعالم الإنسان ، ورغبته في الهروب منه إلى مستوى أعلى أو مستوى أدنى من مستويات الحياة.
أفق جديد للفلسفة1
سوزان لانجر والفلسفة الوضعية
لا يتمثل تقدم التفكير الفلسفي في كشف حقائق جديدة، بقدر ما يتمثل في إلقاء ضوء جديد على الحقائق الموجودة المعروفة من قبل؛ ذلك لأن قدرة الفلسفة لا تمتد إلى مجال الخلق والإبداع، بقدر ما تنصب على التحليل والتفسير والفهم، وإذا كانت عهود التفكير الفلسفي القديمة والوسيطة قد أخطأت في شيء، فإنما كان خطؤها في عدم إدراك هذه الحقيقة الأساسية، بحيث توهمت أن الفكر وحده قادر على أن يخلق بقواه الخاصة معرفة جديدة، وظنت أن العقل إذا مارس فاعليته على ذاته وحدها - في التفكير الفلسفي المجرد - كان كفيلا بأن يستخلص من ذاته علما كافيا بالعالم، على أن انتهاء هذه العهود الغابرة كان إيذانا بارتداد العقل إلى صوابه، وبإدراك الفلسفة لحدودها ولطبيعته الحقة، وهي أنها ضوء كشاف يلقيه العقل على ظواهر كانت موجودة من قبل، أو استمدت من أحد المصادر المتعددة للتجربة البشرية.
ومنذ ذلك الحين، اعتادت أذهاننا أن تقيس كل فلسفة جديدة تبعا لقدرتها على تفسير جوانب متعددة من التجربة البشرية، أو على إلقاء الضوء على مظاهر متباينة للنشاط الإنساني.
Page inconnue