Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
ومن هنا كانت النازية - في رأي كامي - هي التاريخ في صورته الخالصة، أي من حيث هو فعل محض لا عقل له ولا غاية من ورائه.
وإذن، فسواء أنظرنا إلى التاريخ على أنه يستهدف غاية أحكم وضعها، ويسير بقوانين عقلية صارمة نحو هدف محدد، أم نظرنا إليه على أنه قوة لا عقلية تستهدف الفعل بلا معنى أو غاية، فنحن في الحالتين واقعون في قبضة الإرهاب؛ فالتاريخ المعقول يفرض علينا إرهاب الغاية التي يسعى إلى تحقيقها بأي ثمن، ويستبيح في سبيل بلوغها أي شيء، وينظر إلى مسلكنا الذي نعبر به الهوة بيننا وبين الهدف النهائي على أنه مجرد مرحلة انتقالية ينبغي أن نستحل فيها لأنفسنا كل إرهاب وطغيان من أجل تحقيق هدف التاريخ، والتاريخ اللامعقول - من حيث هو فعل محض - أشبه بجسم ضخم لا رأس له، وفيه يستوي كل شيء طالما أنه يطلق طاقتنا الكامنة، التي تسير في طريق أهوج لا مكان فيه للمبادئ أو القيم، وبالاختصار فسيطرة التاريخ تعني الوقوع في قبضة الإرهاب، سواء أكان هذا الإرهاب عقليا منظما مخططا، أم كان لا عقليا متخبطا أهوج.
على هذا النحو إذن يبدو التاريخ لكامي قوة طاغية تستخدم الثورة السياسية أداة تسحق بها الإنسان، وتقضي بها على روح التمرد الأصيلة فيه، أي على سعي الإنسان إلى التحرر، واحتجاجه على الطغيان في كل صوره؛ فالتاريخ يعني العبودية، وسيطرته على الإنسان في القرنين الماضيين هي التي أدت إلى استباحة «الجريمة» واستفحالها، ومنذ اللحظة التي قضى فيها الإنسان على الآلهة، وأنهى عهد «الأزلية»، واختار بدلا منها أن يخضع لحكم التاريخ، منذ هذه اللحظة شهدت الإنسانية جريمة تلو الأخرى، وأصبح القتل هو وسيلة الإنسان الكبرى للتعبير عن نفسه . •••
هذه الخواطر التي دارت بذهن كامي عن معنى التاريخ هي في رأيي سلسلة متصلة من المغالطات، بعضها مقصود وبعضها غير مقصود، لكنها كلها تنم عن فكر يفتقر إلى الموضوعية، توقعه تحيزاته في أخطاء لا حصر لها.
فهل بدأ عهد الجريمة وعهد استباحة القتل على نطاق عالمي شامل، منذ اللحظة التي قوض فيها عرش الأزلية الدينية لتحل محلها تاريخية الإنسان؟ وماذا نقول عن جرائم محاكم التفتيش، وغيرها من الجرائم الرهيبة التي كانت ترتكب على أوسع نطاق، وكلها باسم الدفاع عن الأزلية ودعم سلطة الدين؟ وهل كانت جرائم النخاسين وهم يختطفون العبيد وينقلونهم إلى المزارع الأمريكية ليعملوا بلا أجر؛ هل كانت هذه جرائم ارتكبت في ظل سيطرة التاريخ أو روح الثورة التاريخية؟ من المؤكد أن القتل والجريمة قد ارتكبا على نطاق واسع منذ أقدم العهود، دون أن يكون لعهد سيطرة التاريخ أدنى تأثير في نشرها، صحيح أن كامي يفرق بين الجريمة الحديثة وبين الجرائم السابقة، على أساس أن الأولى تتم عن روية وتدبير، وأنها محسوبة ومنظمة، على حين أن الجريمة السابقة كانت انفعالية هوجاء فحسب، ومع ذلك فإن هذه التفرقة تسقط حالما نفكر في طبيعة «الجريمة» في العصور الوسطى الأوروبية مثلا؛ فهناك كان القتل يرتبط بالقداسة، وكان يتم بناء على أحكام ومبررات «منطقية» تصدر من أعلى السلطات؛ فالتاريخ إذن ليس مسئولا على الإطلاق عن الجريمة المدبرة، بل هو وريثها منذ أقدم العهود، وفضلا عن ذلك فليست الجريمة هي القتل وحده، حتى لو كان ذلك القتل جماعيا، بل إن هناك أنواعا من الجرائم لا تقل قسوة عن القتل، ترتد كلها إلى الظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي، وبهذا المعنى الأخير يكون عصر سيطرة التاريخ هو العصر الذي بذل فيه الإنسان أولى محاولاته للتخلص من «الجريمة» بمعناها الواسع.
ومن جهة أخرى، فإن مفهوم «التاريخ» عند كامي مشوه إلى حد بعيد؛ ذلك لأنه يحمل التاريخ بمعنييه، المعقول واللامعقول، أوزارا هو منها براء؛ فاللامعقولية عند النازية - من حيث هي فعل محض وسلسلة لا تنتهي من المغامرات الهوجاء - لا صلة لها بمعنى التاريخ على الإطلاق، ولم تكن النازية جزءا من تلك الحركة التي استهدفت إقامة مملكة الإنسان على الأرض، بل إن الفلسفة النازية كانت تتضمن عنصر الأزلية، وتدعي الدفاع عن القيم الدينية، وتؤكد أنها ستقيم عالما يدوم إلى الأبد، أما المعقولية التاريخية عند هيجل وتلاميذه - مثل ماركس - فلم تكن تتضمن أية دعوة إلى استباحة كل شيء من أجل تحقيق غاية التاريخ؛ ذلك لأن فكرة «نهاية التاريخ أو غايته» (ولنلاحظ أن كامي في هذا الصدد يتلاعب بمعنيين لكلمة
fin
التي تعني الغاية بمعنى الهدف، وتعني النهاية أيضا) هذه الفكرة هي ذاتها تناقض في الألفاظ؛ لأن التاريخ من حيث هو ظاهرة متطورة دائمة الحركة لا يقبل غاية يتوقف عندها ، قد تكون هذه غاية لمرحلة معينة في التاريخ، ولكنها لا يمكن أن تكون حدا نهائيا تتوقف عنده حركة التاريخ، ومن جهة أخرى فإن ما يسميه كامي باستباحة كل شيء في سبيل تحقيق هذه الغاية، ما هو إلا السعي إلى قهر العقبات التي تحول دون تطور المجتمع نحو تنظيم إنساني أفضل. •••
وإذن فكل تحول للتمرد إلى ثورة سياسية تاريخية هو في رأي كامي انتكاس لروح التمرد الأصيلة في الإنسان، وارتداد من الرغبة في التحرر إلى الوقوع في براثن الطغيان والاستبداد، فما الذي يفعله المتمرد الحر إذن؟ يجيب كامي عن هذا السؤال بقوله: «لو كان للمتمرد أن يشيد فلسفة، لكانت هذه فلسفة الحدود والجهل المحسوب والمخاطرة؛ فمن لا يعرف كل شيء لا يستطيع أن يقتل كل شيء. إن المتمرد بدلا من أن يجعل من التاريخ قوة مطلقة، يرفضه ويعترض عليه باسم مفهوم يكونه عن طبيعته الخاصة، وهو يرفض موقفه، وهذا الموقف تاريخي إلى حد بعيد ... ومن المؤكد أن المتمرد لن يستطيع أن ينكر التاريخ المحيط به؛ فمن خلاله يسعى إلى تأكيد ذاته، غير أنه يشعر إزاءه بمثل ما يشعر به الفنان إزاء الواقع الذي يواجهه، فهو يزدريه دون أن يهرب منه.»
فالخلاص من المشكلات التي جلبها علينا طغيان التاريخ إنما يكون إذن في «الاعتدال»، أي نبذ التطرف الذي يدعي معرفة كل شيء، والذي يحدد لكل شيء غاية ثم يستبيح لنفسه كل شيء في سبيل بلوغها، ولا بد للتمرد من أن تكون له حدوده، ويعود إلى الأصل الروحي الذي استلهمه في البداية، والواقع أن كامي يمجد فكرة «الاعتدال» أعظم التمجيد، ويرى أنها هي ما يحتاج إليه الإنسان المعاصر حقا، وهو في هذا الصدد يضع تقابلا بين روح البحر الأبيض المتوسط - بما تتسم به من اعتدال وسعة أفق - وبين الروح أو الأيديولوجية الجرمانية بما تتسم به من تعصب وتطرف، وعلى حين أن الكثيرين يتوهمون أن التمرد نقيض الاعتدال، فإن كامي يؤكد أن المتمرد الحق هو ذاته المعتدل، فهو يأبى أن يؤله ذاته، أو أن يمضي في أي شيء إلى حد التطرف، وهو لا يصل أبدا في تمسكه بوجهة نظره - أو في ادعائه المعرفة - إلى حد السعي إلى القضاء ماديا على كل من يخالفه، أو يقف في وجه آرائه.
Page inconnue