Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
وتظهر هذه المبادئ بوضوح تام في النظرية الداروينية، التي عدها ماركس تحليلا ديالكتيكيا بالمعنى الصحيح لتطور الأنواع الحية؛ فعليها تنطبق بدقة مفاهيم الديالكتيك الرئيسية؛ لأنها تؤكد وجود تاريخ للحياة، يتطور على أساس ديالكتيكي واضح من خلال التناقض والصراع بين الأضداد، ويتحول فيه التغير الكمي إلى تغير كيفي، ولكن تطبيق مبدأ التطور لم يقتصر على العلوم البيولوجية وحدها، بل إن الفكرة قد غزت مجالات متعددة في العلوم المختلفة بالتدريج، وأصبح لها دورها في علوم الفلك والكيمياء والفيزياء.
ويمكن القول إن كل تقدم علمي إنما يسير في اتجاه التخلي عن الأوصاف الكونية للواقع في سبيل تأكيد تحليلاته الحركية، أعني في اتجاه المنطق الديالكتيكي بدلا من المنطق الصوري، بل إن ما يبدو لنا ساكنا متجانسا على مستوى علمي معين - كالكتل المادية الكبيرة مثلا - يتضح على مستوى علمي أعمق أنه مليء بالحركة والتعقيد والتناقض؛ ففي كل تقدم جديد للعلم تأييد لعبارة هرقليطس العميقة، القائلة إن كل شيء يتحرك ويتحول، وهي العبارة التي تكون الأساس الأول للديالكتيك، وربما كان إنكار وجود ديالكتيك للطبيعة راجعا إلى الاعتقاد بأن للعالم عناصر أو مكونات نهائية - كالجزئيات والذرات - وهو اعتقاد يكذبه العلم كلما اكتشف داخل هذه المكونات مزيدا من التعقيدات والتناقضات.
وإذن فتقدم العلوم الطبيعية يدفعنا إلى التخلي عن المنطق التقليدي - في مستوى معين - والالتجاء إلى نوع آخر من التفسير لا يخضع لذلك المنطق ولا لمبادئ الآلية المرتبطة به، وما دمنا ننجح في تطبيق قوانين الديالكتيك على الطبيعة، فكيف كان يتسنى ذلك لو لم تكن الطبيعة نفسها ذات طابع ديالكتيكي؟ إن التفكير الديالكتيكي لا يمكنه السيطرة على موجود ما لم يكن ذلك الموجود ذاته ديالكتيكيا بطبيعته، وإذا كنا نعترف بأن مجال التاريخ البشري يخضع للديالكتيك، وكذلك مجال علم الحياة؛ فمن غير المعقول أن نتوقف في منتصف الطريق لنقول إن الديالكتيك لا ينطبق على تركيب الذرة، أو أن النواة الذرية لا تؤلف كلا ينطوي في ذاته على سلب وتناقض؛ لذلك فإن ديالكتيك الطبيعة ليس مجرد إسقاط لفكرة بشرية على المجال الطبيعي، وإنما هو الصورة الأعم والأبسط لذلك المبدأ الذي يكون الديالكتيك التاريخي تطبيقا جزئيا له على مجال شديد التعقيد، هو مجال العلاقات الإنسانية.
ولكن الاعتراف بقوانين ديالكتيكية خارج مجال التاريخ البشري لا يعني فرض مصير محتوم على الإنسان، أو جعل التاريخ مجرد ملحق أو تذييل لمسار طبيعي أوسع منه وأشمل؛ ذلك لأن الماركسية - مع حرصها على تحقيق وحدة المعرفة - تؤكد في الوقت ذاته أن لكل مجال طابعا خاصا مميزا، بحيث يكون من المستحيل رد مستويات المعرفة بعضها إلى البعض؛ فلكل من مجال الإنسان ومجال الطبيعة خصائصه المميزة التي لا تسمح برد الواحد منهما إلى الآخر، على الرغم من سيادة الديالكتيك في كلا المجالين في آن واحد.
والعلاقة الحقيقية بين مجالي الطبيعة والإنسان هي علاقة اتصال وانفصال في نفس الوقت؛ فلو لم تكن هذه العلاقة إلا اتصالا فحسب، لكنا إزاء مادية آلية تفسر كل ما يحدث في مجال الإنسان بحوادث طبيعية خالصة، ولو لم يكن يوجد إلا انفصال، لكنا إزاء مذهب روحاني يؤكد استقلال ماهية الإنسان عن كل ما له صلة بالمادة أو الطبيعة. أما الماركسية فتؤكد وجود الاتصال والانفصال بين المجالين في آن واحد؛ إذ إن الإنسان يكون جزءا من الطبيعة، ومع ذلك فإن للتاريخ البشري قوانينه الخاصة التي لا تسمح برد الإنسان إلى مجموع الظروف المحيطة بحياته فحسب.
ولا شك في أن النقد الوجودي يدفع كثيرا من الماركسيين إلى تعديل مواقفهم الأصلية إلى حد ما، بحيث يسلمون - بناء على ما قاله سارتر - بأن الطبيعة لا تكون كلا واحدا، وإنما تتضمن «كليات» متعددة فحسب، ومثل هذا يصدق على التاريخ بدوره؛ لأن التاريخ ليس كلا واحدا متصلا، بل إن فيه «كليات» كثيرة، يكون كل مجتمع واحدا منها، وقد يكون الواحد منها منفصلا عن الباقين، كذلك يسلمون بأن فكرة وجود مجموعة تامة مقفلة محددة من قوانين الديالكتيك هي فكرة باطلة تؤدي إلى خلق نوع جديد من اللاهوت، وكل ما يؤكدونه هو أن المنطق الأرسطي ومبادئ الميكانيكا ليست إلا حالات خاصة داخل تفكير ديالكتيكي أعم وأوسع نطاقا، يترك فيه المجال مفتوحا لتقدم العلم ولما تكشفه العلوم المختلفة من أوجه جديدة للطبيعة؛ فالقوانين الديالكتيكية إذن تخضع للتغيير المستمر، والمصدر الوحيد الذي يستمد منه كل جديد في هذا المجال هو العمل الاجتماعي والتجربة العلمية.
هل يوجد ديالكتيك للطبيعة؟
اتضح لنا من المناقشة السابقة أن من الممكن أن تتفق آراء بعض الوجوديين - مثل سارتر وإيبوليت - مع الماركسيين حول موضوع الديالكتيك البشري أو التاريخي، أما في موضوع ديالكتيك الطبيعة - وهو الذي يسمى عادة بالمادة الديالكتيكية - فهناك اختلاف أساسي بين الموقفين.
وفي اعتقادي أن أية مناقشة جدية لموضوع ديالكتيك الطبيعة ينبغي أن تبدأ بالسؤال الآتي: أيهما أسبق، الواقع أم الفكر؟ من الواضح أن الإجابة الماركسية عن هذا السؤال تؤكد أسبقية الواقع على التفكير، وهذا بدوره رأي قد لا يختلف عليه الوجوديون من أمثال سارتر، ولكني أعتقد أن الالتزام الدقيق لمبدأ أسبقية الواقع على الفكر كفيل بالتشكيك في فكرة ديالكتيك الطبيعة، أو على الأقل يجعلها فكرة عقيمة أو إطارا فارغا غير مثمر، وسوف أحاول في هذا الجزء النقدي من المقال أن أثبت هذا الرأي.
إن القول بأن الديالكتيك قانون للطبيعة، يعني أن فهمنا للطبيعة يصبح متوقفا على قانون فلسفي، أي إن العلاقة بين الفكر والواقع قد انعكست، بحيث أصبح المبدأ الفكري أساسا وشرطا لفهم الواقع، وهذا يستتبع تغييرا مناظرا في فهمنا للعلاقة بين العلم والفلسفة؛ إذ إن المعرفة العلمية تصبح عندئذ متوقفة على المعرفة الفلسفية ومعتمدة عليها، بحيث لا يتمكن العلم الطبيعي من السير في طريقه إلا بعد استيعابه لمبدأ رئيسي في الفلسفة، ومعنى ذلك أن الفلسفة لا تعود لاحقة أو تالية للعلم، وإنما تصبح متغلغلة في صميم العلم، تكون شرطا سابقا للعمل العلمي ذاته، وهكذا يبدو أن هناك تعارضا أساسيا بين مبدأ أسبقية الواقع على العقل، وبين مبدأ «ديالكتيك الطبيعة»، الذي يفترض مقدما وجود صيغة فلسفية تعد شرطا ضروريا لكل كشف علمي لأوجه الواقع، وكلا المبدأين السابقين ماركسي كما هو معلوم، فهلا يحتم الاتساق الفكري إذن التضحية بأحدهما في سبيل الآخر؟
Page inconnue