Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
فلكل عصر - إذن - حق مشروع في أن يضع الفلسفات التي ورثها في ميزان النقد، وهو إذ يفعل ذلك فإنه لا يستهدف تحقيق مصالحه الخاصة وحدها (أعني أنه لا يهدف إلى إعادة اختبار تراثه الفكري من أجل استبقاء ما يعينه على تحقيق فهم أفضل لنفسه وللعالم فحسب)، بل إنه يستجيب بذلك لنداء الفلسفة الحقة، ويعمل على تحقيق رسالتها الأصيلة - التي هي إثارة الأذهان وحفز العقول على التفكير - لا نقل مضمون أو محتوى ثابت من المعارف من جيل إلى جيل.
بهذا المعنى واستهدافا لهذه الغاية يعمل عصرنا على إعادة تفسير هيجل، ويضع فكره في ميزان النقد، وعلى الرغم من أن هيجل قدم فلسفته على صورة مذهب متكامل محكم البناء، لا يمكن أن ينتزع منه أو يضاف إليه شيء، فإن فلسفته هذه قد كشفت لكل العصور التالية - على رأسها عصرنا الحاضر - عن قدرة مذهلة على الاستجابة لمقتضيات أنماط من الحياة تختلف أساسا عن تلك التي صيغت هذه الفلسفة في ظلها، وبالمثل فعلى الرغم من أن هيجل كان من أشد الفلاسفة وعيا بطبيعة العصر الذي عاش فيه، حتى إنه جعل من ذلك العصر محور ارتكاز تدور حوله كل أحكامه على العصور السابقة، وكانت فلسفته تبدو كما لو كانت قد اتخذت طابعا مقفلا على نفسه، مكتفيا كل الاكتفاء بذاته، ويستحيل أن تفهم إلا بالإشارة إلى العصر الذي ظهرت فيه، على الرغم من ذلك فإن هيجل يعد أنموذجا نادرا للفيلسوف الذي يوحي للعصور اللاحقة بأفكار جديدة، ويستطيع أن يخاطبها بلغتها الخاصة، وهذه القدرة وحدها كافية لكي تجعل لهيجل مكانة رفيعة في عصرنا الحاضر، مهما ثقلت موازينه حين يوضع فكره في ميزان النقد.
إن كل فلسفة كبرى تقبل بطبيعتها ألوانا شتى من التفسيرات، بل ربما كان في وسع المرء أن يتخذ من تباين التفسيرات معيارا يقيس به المكانة الحقيقية لفكر الفيلسوف، وبهذا المقياس يظهر هيجل في صورة مارد فكري لا نظير له؛ ذلك لأن فلسفته قد أوحت للشراح بأشد التفسيرات تقدمية ورجعية في آن واحد؛ فهو في نظر البعض فيلسوف تشع من تعاليمه روح الثورة، وفي نظر البعض الآخر داعية متحمس إلى الروح المحافظة، وتارة تتبنى تعاليمه أشد الاتجاهات الفكرية يسارية، وتارة أخرى يرحب بها اليمين ويرى فيها أفضل وسيلة لمحاربة تطرف اليسار، وهي فلسفة مثالية - بمعنى خاص لهذه الكلمة - ومع ذلك فقد انبثق منها أشهر المذاهب المادية في العصر الحديث، وهي في نظر البعض فلسفة متفائلة إلى حد تبرير كل وضع قائم، وفي نظر البعض الآخر فلسفة مأساوية يحركها إحساس الإنسان بتمزق وعيه وشقائه، بل إن صورة الفيلسوف ذاته تتباين، من ذلك الأستاذ الجامعي المهادن الذي أصبح في الطور الأخير من حياته «دكتاتورا فلسفيا» في بلاده، ومعبرا عن مصالح النظام القائم، إلى فيلسوف الثورة والتغير والنفي والرفض.
لقد كان هيجل فيلسوفا محترفا دون أدنى شك، بل إنه ربما كان خير ممثل للفلسفة كمهنة مستقلة قائمة بذاتها، أو إن شئت فقل إنه كان تجسيدا حيا للفلسفة من حيث هي عمل يشغل به الإنسان حياته كاملة، ولم يكن هيجل يخجل من أن يوصف بأنه فيلسوف محترف؛ إذ إن الفلسفة عنده «حرفة» لها قواعدها ولغتها وأصولها، وتقتضي مرانا وتدريبا عقليا خاصا، ولقد كان هيجل في ذلك على النقيض من خصميه المعاصرين له - كيركجورد وشوبنهور - اللذين أراد كل منهما أن «يعيش» فلسفته، وأن يقضي على كل ازدواج بين شخصيته من حيث هو إنسان، وشخصيته من حيث هو فيلسوف، ولعل خير ما يمكن التعبير به عن موقفهما من طريقة هيجل في التفلسف هو أن نستعير لفظا من هيجل ذاته - أعني لفظ «الاغتراب» - فالفيلسوف المحترف إنسان مغترب؛ لأنه يحيا بوصفه صاحب مهنة معينة - أعني «أستاذا» في حالة هيجل - ويحيا من ناحية أخرى بوصفه فيلسوفا، وهو في حياته كفيلسوف يمارس فكرا لا صلة له بحياته اليومية أو بمهنته بوصفه موظفا عاما في الدولة.
ومع ذلك فإن هذا الذي يعد اغترابا قد يكون - من وجهة نظر معينة - مصدر إثراء لفكر الفيلسوف؛ ذلك لأن عمله في الدولة يمكن أن يعني اندماجه في الحياة العامة بوصفه مواطنا، بحيث تثرى تجربته الفلسفية بممارسته للشئون العملية، على حين أن ذلك الذي يحيا فلسفته (ويظن أنه يقضي على الاغتراب في ذاته) قد تكون حياته خاوية هزيلة؛ لأنها لا تخرج عن حدود تفكيره الفلسفي. والحق أننا لو ألقينا نظرة إلى طبيعة عصرنا الحاضر؛ لتبين لنا أن وجهة نظر هيجل هي الأقرب إلى الصواب؛ إذ إن كثيرا من أنواع النشاط الروحي تتحول إلى «حرف» لها أصولها وقواعدها الخاصة، بحيث أصبحنا نجد شعراء وأدباء وفنانين محترفين، وكاد أن يختفي من حياتنا ذلك النمط من الهواة ومن أصحاب الأمزجة الأدبية أو الشاعرية، الذين يمارسون التفلسف أو غيره من ضروب النشاط الروحي دون أن يعترفوا به مهنة ذات قواعد وأصول تقتضي تدريبا ومرانا شاقا.
على أن الأمر الذي يدعو إلى العجب حقا هو أن هذه الفلسفة، التي ظهرت أصلا بوصفها مهنة احترافية، على نحو يوحي بأنها تدعو إلى تثبيت الفكر وتمجيده، كانت في واقع الأمر أبعد الفلسفات عن التحجر في أشكال أو قوالب ثابتة؛ ذلك لأن الفلسفة عند هيجل هي أعلى صور وعي الروح بذاتها، وهي أرفع مراحل تجلي هذه الروح، وماهية الروح لا تعدو أن تكون فعلها ونشاطها. وعلى ذلك فإن الصورة الحقة للفلسفة هي ذلك الفعل والنشاط الفكري الذي لا ينقطع، والذي يمارس على كل حصيلة استمدها الذهن البشري من أي ميدان من ميادين نشاطه، وبعبارة أخرى فإن فلسفة «الأستاذ» الذي طالما سخر خصومه من لقبه هذا، هي أبعد ما تكون عن التعاليم الثابتة التي يلقيها «الأساتذة» في عقول تلاميذهم، وهي فاعلية فكرية لا تنقطع، وحركة ذاتية للعقل البشري، لا تتجمد ولا تتحجر في أي مذهب أحادي الجانب.
هذا الطابع الدينامي لمذهب هيجل هو الذي يتيح له أن يعلو على كل الصور الشائعة للمذاهب الفلسفية، بل أن يخرج من إطار كثير من التفسيرات التي قدمت له، والتي لقيت في وقت ما رواجا عظيما.
إن المألوف في المذاهب الفلسفية - وخاصة ما كان منها واسع النطاق، ينتظم عددا كبيرا من مجالات الفكر والواقع - أن تكون مشيدة عن طريق الاستنباط، وعلى هذا النحو شيد «كانت» مذهبه ووضع اسبينوزا فلسفته المستخلصة بمنهج هندسي استنباطي دقيق. ولكن أوضح نماذج التفكير الاستنباطي في الفلسفة كان مذهب ديكارت الذي يبدأ بحقائق بسيطة، ويقيم بناء فلسفيا كاملا على أساس انتقال الوضوح والبداهة من المقدمات إلى النتائج بفضل أحكام عملية الاستنباط، مثل هذه المذاهب الاستنباطية تسير - بطبيعتها - في طريق يزداد تجريدا على الدوام، بحيث تكون كل لحظة لاحقة فيها أبعد عن الطابع العيني من اللحظة السابقة.
على أن مذهب هيجل - بالرغم من أنه، باعتراف الجميع، أشمل المذاهب الفلسفية كلها، وأشدها طموحا في استيعاب كل ظواهر الروح بحيث لا يخرج عنه شيء منها حتى أشدها تنافرا - لم يكن مبنيا على استنباط يتزايد تجريده، ولم يكن الإحكام المنطقي هو وسيلة الانتقال من لحظاته المختلفة، بل إنه قد شيد بطريقة تركيبية تتضمن فيها اللحظة اللاحقة «أكثر» مما تتضمنه اللحظة السابقة، وتكون أقل تجريدا وأقرب إلى العينية منها. إن المذهب ينمو عضويا، ويتوسع تدريجيا ولا يترتب الجديد فيه - بطريقة تحليلية - على القديم، ولا يكون مجرد استخلاص لما كان موجودا فيه بالقوة، بل إن القديم يكون مادة يبنى عليها الجديد بطريقة تركيبية خلاقة. وهكذا يبدأ المذهب من المجرد - الذي كان هيجل يعده هزيلا خاليا من المضمون - إلى العيني، الذي كان في نظره ثريا زاخرا بالتعقيد والتنوع. وبهذا المعنى يمكن أن يقال - على نحو مؤكد - إن هيجل لم يحاول أن يستنبط العالم أو يقدم له تفسيرا منطقيا، وإنما أراد أن يضم كل ما هو موجود، وكل ما هو مغطى، في إطار معقول واحد. وعلى هذا النحو تعد فلسفته واقعية ومثالية في آن معا، فهي واقعية لأنها تضم لحظات الواقع كلها وتجعل كلا منها حقيقة فلسفية في لحظة حدوثها، وهي مثالية لأن الإطار الذي تضع فيه الواقع بأسره إطار عقلي في أساسه.
إن صفة الشمول هي مصدر قوة الفكر الهيجلي ومظهر ضعفه في الآن نفسه؛ فلقد كان يتملك هيجل شعور طاغ بأن عصره يمثل - في جميع الميادين - قمة الأحداث التاريخية التي سبقته، ويمثل أكمل صور تحققها في الوقت ذاته، ومن هنا أحس بالرغبة في تقديم «كشف حساب» للحضارة على حد تعبير «لوفيفر»، وإيجاد مركب يؤلف بين كل عناصرها، وكان الهدف الرئيسي لفلسفته هو تحقيق الوحدة بين الفكر والواقع وبين الشكل والمضمون، على نحو يضمن الجمع بين هذه الأطراف وتجاوزها في مركب أعلى؛ ففلسفة هيجل كانت - في نظره - مركبا يضم كل ما سبقها، لا في ميدان الفلسفة فحسب، بل في كل ميادين نشاط الروح الإنسانية، ولم يكن هيجل يسعى إلى تحقيق هذا الضم بطريقة تلفيقية، أو عن طريق الجمع بين عناصر متنافرة فيما بينها، بل كان هدفه هو أن يؤلف منها مركبا عضويا متماسكا، وكان يرى في ذلك لب النزوع الفلسفي الحقيقي وجوهره، ولقد كان يتملكه شعور واضح بأن فلسفته وصلت إلى العمق الباطن للأشياء، وقدمت تفسيرا للواقع في كليته وبجميع جوانبه، وهو شعور يستبعد تماما روح الشك واللاأدرية كما سادت في القرن الثامن عشر، وكما ظلت آثارها واضحة في أول مذهب فلسفي ألماني كبير، وأعني به مذهب «كانت».
Page inconnue