Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
ولكي أوضح فكرتي أود أن أضرب لها مثلا بفكرة قوانين التاريخ في النظرية الماركسية، وأول ما ينبغي أن نتنبه إليه هو أن كلمة «التاريخ» ذاتها تجريد لفظي، وأن تجسيم التاريخ - وكأنه شيء أو كيان متحرك - ينطوي في ذاته على قدر غير قليل من التجاوز، كما ينبغي أن نتنبه إلى أن التاريخ - حسب تعريفه - يتعلق بالماضي، وأننا حين نتحدث عن «حركة التاريخ في المستقبل» - على سبيل المثال - فنحن - من الوجهة المنطقية الخالصة - نرتكب خطأين: أولهما استخدام لفظ يرتبط في ماهيته بالماضي، للدلالة على المستقبل، وثانيهما تجسيم المجردات وتشخيصها وتحريكها على النحو الذي أشرنا إليه من قبل.
وإذا تركنا جانبا هذه الملاحظات - التي قد يراها البعض شكلية - وانتقلنا إلى فكرة قوانين التاريخ - كما تصاغ في النظرية الماركسية - لتبين لنا أن القانون يحتم قيام الصراع بين الطبقة الرأسمالية وطبقة العمال، نتيجة لاشتداد التناقض بينهما، ويحتم انتصار الطبقة العمالية في نهاية الأمر، ويؤكد حتمية القضاء على رأس المال، هذا القانون يتسم بسمات خاصة، تحول دون تشبيهه - آليا - بالقوانين الطبيعية: (1)
أولى هذه السمات أنه مبني على استقراء ناقص؛ ففي النظرية الماركسية يبرر هذا القانون على أساس أنه كان هناك تناقض مماثل بين الأرقاء ومسترقيهم في العصور القديمة، وبين الفلاحين المعدمين والإقطاعيين في العصور الوسطى، وأن هذا التناقض انتهى - في الحالتين - بانتصار الطبقة المقهورة، وبتحرك التاريخ خطوة إلى الأمام، تسود فيها قيم أكثر تقدمية من تلك التي سادت المرحلة السابقة، وإن كانت بدورها تفضي إلى تناقض جديد، وقياسا على ذلك فإن «قانون التاريخ» ذاته يحتم انتهاء التناقض الثالث بين العمال والرأسماليين بانتصار الأولين وظهور شكل جديد من أشكال علاقات الإنتاج.
ولو سلمنا بكل مقدمات هذا الاستدلال دون مناقشة، فسوف نجد مع ذلك أن هذا «القانون» يرتكز على حالتين سابقتين مماثلتين، ويقيس الثالثة عليهما، ومن الواضح أنه ليس يكفي في حالة العلوم الطبيعية تكوين قانون من ملاحظة حالتين فحسب، وفضلا عن ذلك فإن التماثل ليس تاما بين الحالات الثلاث في المجال التاريخي؛ إذ إن كل حالة تقوم في سياق مختلف عن الحالة الأخرى، وتختلف في تفاصيلها عنها إلى حد غير قليل، فاستقراء الماضي إذن لا يعد في هذه الحالة أساسا كافيا لاستخلاص «قانون»، إذا كنا نود أن نحتفظ لكلمة «القانون» بمعناها العلمي المألوف. (2)
وفي الوقت الذي يؤكد فيه أصحاب النظرية الماركسية - وهي في هذه الحالة «المادية التاريخية» - أن انتصار الطبقة العاملة أمر مؤكد بحكم «قانون تاريخي» حتمي، فإنهم - حتى أشدهم تحمسا - يؤكدون أن هذه الحتمية ليست آلية تفرضها الحوادث ذاتها سواء شاء الإنسان أم لم يشأ، بل هي حتمية تقوم فيها الإرادة الإنسانية بدور أساسي.
ولقد كان تأكيد أهمية الإرادة الإنسانية على هذا النحو أمرا لا مفر منه؛ إذ إن الكثيرين قد أساءوا فهم المادية التاريخية بحيث تصوروا أن «حركة التاريخ» تسير آليا في صالح الطبقات المغلوبة على أمرها، ومن ثم لم يكن هناك ما يدعو في نظرهم إلى بذل جهد كبير في الكفاح من أجل تحقيق أهدافهم؛ إذ إن «حركة التاريخ» ستحقق لهم هذه الأهداف تلقائيا، وما عليهم إلا أن ينتظروا حتى يحقق لهم التاريخ ما يبتغون؛ لذلك كان لزاما على مفكري المادية التاريخية أن يصححوا هذا الفهم، ويؤكدوا أن للقانون التاريخي معنى خاصا، بحيث يستحيل أن يتحقق هذا القانون ما لم تتدخل الإرادة الإنسانية من أجل ضمان تحقيقه.
على أن هذا التصحيح لمعنى القانون في مجال التاريخ الإنساني كفيل بأن يجعل هذا القانون شيئا فريدا بحق؛ ذلك لأن أهم ما يميز القانون العلمي هو استقلاله عن الإرادة الإنسانية، وحدوثه سواء شاء الإنسان أم لم يشأ؛ فإلى أي حد يستحق أن يسمى قانونا ذلك الذي لا يتحقق إلا بمساعدة الإرادة الإنسانية؟ وأين هي النقطة التي يمكن عندها تحديد دور الحتمية التاريخية المؤدية إلى ظهور القانون، ودور الإرادة الإنسانية التي تساعد على تحقيق القانون؟ وهل هناك حقا - إلى جانب إرادة الإنسان - أي عامل آخر «خفي» يوجه الحوادث في اتجاه معين؟ أم إن الإرادة الإنسانية هي التي تقوم فعلا بكل شيء؟ وإذا صح أن إرادة الإنسان هي العامل الوحيد المتحكم في توجيه دفة التاريخ الإنساني، فما قيمة الإشارة إلى «القانون» في هذه الحالة؟ ألن يكون في وسع هذه الإرادة أن تكسر القانون إذا شاءت وتوجهه في اتجاه آخر؟
ولكي أزيد هذه النقطة الأخيرة إيضاحا، أود أن أشير إلى حقيقة أعتقد أنها غابت عن ذهن كل من قرأت لهم من أنصار المادية التاريخية؛ فتسلسل التفكير في هذه النظرية يسير على النحو الآتي: هناك قانون تاريخي يحتم انتصار الطبقة العاملة في صراعها مع الرأسمالية، ولكن هذا القانون لا يسير على نحو آلي، بل لا بد من أن تتدخل الإرادة الإنسانية - ممثلة في كفاح الطبقة العاملة - من أجل تحقيقه، ولولا هذا الكفاح لما استطاع القانون أن يتحقق، والأمر الذي غاب عن أذهان هؤلاء المفكرين هو أن القول بأن الإرادة الإنسانية هي التي يتحقق من خلالها قانون التاريخ، يترتب عليه أن الإرادة الإنسانية قادرة - لو شاءت - على كسر القانون أو عدم تحقيقه، وبعبارة أخرى فإن القانون إذا كان رهنا بالجهد الذي يبذله الإنسان من أجل وضعه موضع التنفيذ، فإنه يمكن أن يلغى لو اتجه جهد الإنسان إلى عدم تنفيذه، ما دام القانون لا يملك بذاته قوة تمكنه من تحقيق ذاته.
هذه الحقيقة البسيطة لها - في رأيي - أهمية قصوى في فهم تاريخ القرن العشرين؛ ذلك لأن هذا التاريخ إذا كان سجلا لكفاح الطبقات المقهورة من أجل تحقيق الاشتراكية، فهو أيضا سجل لكفاح الطبقات المالكة والرأسمالية من أجل الحيلولة دون تحقيقها، ولم يكن في وسع «قانون التاريخ» في هذه الحالة أن يغلب كفاحا على كفاح، بل إن الانتصار في كل حالة كان يتوقف على مقدار الجهد الذي تبذله إرادة الإنسان، وإذا كنا نعترف بأن تدخل الإنسان قادر على تحقيق حتمية التاريخ، فيجب أن نعترف أيضا بأن التدخل في الاتجاه المضاد قادر على إلغاء تأثير هذه الحتمية أو إبطاله، وليس تاريخ مقاومة الرأسمالية طوال القرن العشرين إلا سلسلة متصلة من المحاولات الواعية التي تبذلها إرادة مضادة، لإلغاء تأثير القانون التاريخي الذي تؤكد نظرية المادية التاريخية أنه سيؤدي في نهاية المطاف إلى القضاء على الرأسمالية، ومن الواضح أن قدرة الرأسمالية على البقاء قد جاوزت بكثير الحد الذي كان يتوقعه ماركس أو لينين أو غيرهما من أقطاب المادية التاريخية، بل إنه لم تظهر حتى الآن أية بوادر تدل على قرب انهيارها، وربما كان العكس - في السنوات العشر الماضية - هو الصحيح، فعلام يدل هذا كله؟ إنه يدل على تلك الحقيقة التي لم يعمل لها أقطاب المادية التاريخية حسابا، وهي أن إرادة الإنسان إذا كانت هي شرط تحقيق الحتمية التاريخية، فإنها تستطيع - إذا اتجهت وجهة مضادة - أن تغير عن عمد مسار التاريخ في اتجاه مغاير للاتجاه الذي تشاؤه إرادة الطبقة العاملة، أي تستطيع - إذا اكتملت لها القوة الكافية - أن تبطل تأثير «القانون التاريخي»، وليست هذه دعوة إلى اليأس على الإطلاق، بل إنها لا تعدو أن تكون تنبيها للإنسان المكافح إلى أن كل شيء يتوقف على إرادته، وعلى مدى صلابته في الكفاح، وإلى أن «حتمية التاريخ» لن تنفع المتخاذل، ولن تعوض تقصيره في الدفاع عن حقوقه، أو في السعي إلى تحقيق مطالبه، بل إن مسار التاريخ يمكن أن ينقلب عليه إذا لم يبذل الجهد الكافي في توجيهه نحو الغاية التي ينشدها؛ إذ ليست للتاريخ قوة «سحرية» خارج نطاق إرادة الإنسان. (3)
فإذا كان القانون التاريخي «موضوعيا»، فإنه لا يكون كذلك إلا بمعنى خاص تماما؛ فموضوعيته «مصنوعة» بواسطة الإرادة الإنسانية، ومن الممكن أن يثار في هذا الصدد سؤال على قدر كبير من الأهمية، وأعني به: هل يمكن أن تكون هناك موضوعية «تصنع»؟ وماذا يعود للموضوعية من معنى حين لا تعود مفروضة بموجب المنطق الداخلي للحوادث ذاتها؟ هذا - على أية حال - سؤال لا أود أن أخوض فيه الآن - بالرغم من أهميته البالغة - حتى لا يفلت من أيدينا الخيط الرئيسي للمناقشة، ولكني أود أن أتناول المسألة من زاوية أخرى، هي: ما قيمة «القانون التاريخي» - في هذه الحالة - إذا كان حدوثه أو عدم حدوثه متوقفا على إرادة الإنسان؟ أي بعبارة إذا كانت الإرادة الإنسانية هي العامل الحاسم والوحيد المتحكم في توجيه دفة التاريخ؟
Page inconnue