Opinions philosophiques sur la crise de l'époque
آراء فلسفية في أزمة العصر
Genres
وترى المؤلفة ضرورة توضيح طبيعة الأزمة التي لم ير الإنسان مثلها من قبل في تاريخه، ودور الفلسفة في تحليل الحضارة التي نعيشها وفي بيان أوجه النقص في هذه الحضارة. (1) فظاعة هذا القرن العشرين
وأول ما تعرض له مؤلفة الكتاب في سبيل إدراك مغزى الأزمة الحاضرة هو هذا الإحساس بالفزع الذي يسود النفوس في القرن العشرين. ولا جدال في أن كل كائن بشري يعرف تمام المعرفة ما تعنيه أوقات الحرج؛ فعندما هجر بوذا أرجاء القصر المنيف الذي كان يعيش في كنفه، والتقى لأول مرة في حياته بالمرض والشيخوخة والفقر والموت، واجه أسباب الأزمات الشخصية التي عرفها الإنسان منذ الأزل. وإن وعي الإنسان بحتمية الموت وحده يكفي لتبصير الإنسان بالدور الأليم الذي يؤديه كضيف في هذه الدنيا نزل «في رحاب الدنيا التي تضيفه». وليس من شك في أن شعور الإنسان بقصر عمره وضرورة زواله يسوغ تعريفنا له بالكائن الذي يعي معنى الموت، وهو تعريف لا يقل صوابا عن التعريف التقليدي للإنسان بأنه حيوان عاقل. وهذه المأساة البشرية تفسر لنا تلهف الإنسان إلى الخلود؛ ذلك التلهف الذي يظهر في كل ثقافة من الثقافات، ويساعد على تفسير قوة تأثير الديانات .
وإذا تحدثنا عن «أزمة العصر» فنحن نعني شيئا مختلفا عن الأزمات الفردية التي يلاقيها المرء في حياته؛ لأنا في هذه الحالة نعالج تطورات متراكمة أساسية بعيدة المدى، تحدث لجمهور بأسره، وتخلق فترة جديدة من فترات التاريخ لها خطرها وخطورتها. وعندما يعود المؤرخون بأبصارهم إلى سير الحضارة الغربية يرون فترات من الحرج في تاريخ الإنسان، تتميز بانقلاب شديد في النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، انقلاب يهدد القيم الثابتة ويتحدى وسائل الحكم المعروفة. ومن المؤكد أن كل عصر من عصور التطور الاجتماعي والسياسي يخلق بسبب حداثته نوعا من الفوضى والاضطراب، وبعض هذه الأزمات التي حدثت في الماضي، مثل الإصلاح الديني وما صاحبه من حروب دينية، أو الثورة الفرنسية وما تخللها من عصر الإرهاب وما أعقبها من حكم نابليون، كانت أوقاتا وحشية عصيبة، تميزت بالعنف الشديد وإراقة الدماء. ولكنا - إلى جانب ذلك - يجب أن نذكر أنها كانت كذلك أوقاتا لم تكن فيها معاناة التطور وثمن الآلام هي العناصر الوحيدة في النضال الاجتماعي؛ فلقد كانت مجموعات كبيرة من البشر تثق وسط هذا الاضطراب بمستقبل أفضل للإنسان، كما كانت هناك خطط عملية لإنهاء الأزمة وتمهيد السبيل إلى نظام جديد.
غير أنه كانت هناك - لسوء الحظ - إلى جانب هذه الفترات من التاريخ البشري، فترات أخرى سارت فيها الحضارات نحو الانحلال، دون أمل في المستقبل يخفف من وقع المأساة. وفي أمثال هذه الفترات التي يسود فيها التدهور كان الهلع يستولي على النفوس، وكان الخوف والعزلة من المشاعر التي تسيطر على الإنسان. وفي مثل هذا الجو الذي تتدهور فيه الحضارة يحل اليأس حتى في قلوب أشد الفنانين حساسية وأكثر المفكرين علما. ولما كانوا لا يجدون ما ينصحون به، فهم يعتزلون العالم في قدس الفن الخاص أو العقيدة الصوفية، أو يقنعون بالتعبير عن عبث كل علاج. وقد لخص جلبرت مري عند دراسته لفترات التدهور في الحضارة الهلينية هذه النظرة إلى الأمور في عبارة موجزة أصبحت شائعة على لسان كل مثقف في بلاد الغرب، وهي «فتور الحماسة». ولم يعن مري بهذه العبارة انحلال المدن الحكومية الإغريقية، وإنما قصد بها كذلك تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها. وقد اتضح انحطاط التفكير - في هذا الجو من الموت البطيء - في انتشار التصوف والتزهد وضعف العقيدة في العلوم.
ومما له دلالته أيضا أن روما قد باتت - في آخر عهد الإمبراطورية - حكومة مستبدة سافرة؛ لأن الناس فقدوا ثقتهم بأنفسهم، وأصبحوا مستعدين للتضحية بكل حق لهم في الحرية في سبيل أمن وهمي تعدهم به الحكومة المستبدة.
ويا ليت هذه النظرة المميتة المتشائمة التي تقضي على الإيمان بشخصية الإنسان والإيمان بإيجاد حل إيجابي للمشكلات العامة، يا ليت هذه النظرة قد اقتصرت على هذين المثالين من أمثلة الإخفاق في الحضارة الغربية! إلا أن أعراض «فتور الحماسة» يمكن أن تشاهد في العالم المعاصر، وجو اليأس يشجع بالفعل على التأهب لحفر قبر الحضارة الغربية التي سوف تنتهي حياتها عما قريب، إذا لم تنتشلها من وهدتها؛ فكيف سيطر هذا اليأس على نفوس الناس في الغرب؟
لقد قضت الحضارة الغربية الحديثة طفولتها القوية إبان النهضة وعصر الإصلاح الديني، وهي على ثقة تامة بكرامة الإنسان وقدرته على الخلق والإبداع، وعلى أهبة لأن تؤمن بالمعرفة البشرية وخبرة الإنسان. وكان من أهم العوامل التي دعمت هذا الإيمان ظهور العلم الحديث والحكومات القومية. وهذه العوامل، مستقلة أحيانا، متعارضة أحيانا، متضامنة في أكثر الأحيان، عملت على إضعاف الثقة بسلطة عليا سابقة، سواء كانت هذه السلطة هي نفوذ أرسطو أم نفوذ الكنيسة، وأخذت حيوية هذه الحركة الإنسانية تشتد بتقدم العلوم وتعزيز الروح القومية، وكلما تقدمت الحركة خلقت ظروفا اجتماعية تحررية تجمعت في العصر الذي يعرف في التاريخ الفكر الإنساني ب «عصر العقل» في القرن الثامن عشر، و«عصر التقدم والتصنيع» في القرن التاسع عشر. ولكن كل هذه التطورات المبشرة التي ترتبت على نمو القوميات الكبرى وتقدم التطبيقات العلمية انقلبت على شخصية الإنسان في القرن العشرين؛ فكلما اتسعت رقعة التمدن في الحياة اليومية وفي انتشار المصانع في ميدان العمل، ازداد الإحساس بضعف روح الجماعة، واشتد الشعور بالعزلة، وذاب الفرد في المجموع في مجتمع بيروقراطي.
وقد ارتفعت الأصوات في القرن التاسع عشر منذرة بهذه الظروف الجديدة في حياة الإنسان الحديث، ومن بين هذه الأصوات أصوات ثلاثة لا يمكن أن تنسى: صوت ماركس، وكركجارد، ونيتشه. وقد تنبأ هؤلاء المفكرون الثلاثة في جلاء بصيرة، وصفاء ذهن، بكل التطورات المقبلة، ولهم تأثير ساحر في معتقداتنا في العصر الحاضر. رأى ماركس المفارقة المتزايدة بين الوسائل التكنولوجية التي يمكن أن تضاعف الإنتاج فتضاعف بذلك من حرية الإنسان من ناحية، وبين حالة العزلة عند الإنسان التي تنشأ عن العلاقات الاجتماعية التي تترتب على الإنتاج، والتي تحول الإنسان بغير رأفة إلى سلعة من السلع، وإلى شيء من الأشياء. وكلما تقدم ماركس في بحوثه اشتد اهتمامه بالظروف الاجتماعية وكأنه نسي الإنسان كفرد. ولم يكن الأمر على هذه الصورة مع كركجارد الذي جعل خبرة الفرد الفذة محور اهتمامه، وهنا اكتشف أن التفكير المجرد لا يستطيع أن يجابه القوى البشرية الخفية العارمة، وأدرك أن حياة الإنسان في المجتمع الصناعي تعادي بطبيعتها الحياة الدينية المسيحية. ولما اشتد فزعه لتدهور العقيدة الدينية الصحيحة، حاول أن يتلمس الإيمان الديني الأصيل في غضون خبرته الخاصة. وشهد نيتشه كذلك تدهور المسيحية، ولكنه اتجه بفلسفته وجهة أخرى تخالف ما ذهب إليه كركجارد كل المخالفة؛ فبينما كان كركجارد يحاول أن يسترد العقيدة في الله نرى نيتشه ينكر هذه العقيدة، وحاول أن يستبدل بالعقيدة الدينية الإيمان بالقومية، وبعبادة يؤديها الناس كالأغنام في الماضي، تمجيد إنسان المستقبل وقوته.
ثم ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية جماعة من المفكرين عبرت بصورة أقوى عن ضعف روح الإنسانية عند الإنسان، عبر عنه شفيترز في كتابه «المدنية والأخلاق»، الذي نشره في عام 1923م، وفيه يقول: «إن موضوعي هو مأساة النظرة الغربية إلى العالم ... إن مدنيتنا تمر بأزمة حادة ... وأكثر الناس يرد هذه الأزمة إلى الحرب، ولكنهم مخطئون؛ فليست الحرب وكل ما يترتب عليها سوى ظاهرة من ظواهر انعدام المدنية الذي نجد أنفسنا فيه.» وقد عزا شفيترز انعدام المدنية هذا إلى عدم التوازن بين تقدمنا المادي وتقدمنا الروحي . وذكر شفيترز فوق كل ذلك أن أكبر خطر يكمن وراء تقدير العناصر المادية فوق العناصر الروحية في الحياة هو «أن أكثر الناس عن طريق الانقلاب الثوري في ظروف حياتهم يتحولون إلى قوم غير أحرار، بدلا من أن يصبحوا أحرارا.» وفي ظروف الحياة الحاضرة يكافح الناس في سبيل البقاء، وهم يرهقون أنفسهم بالعمل دون أن يوفروا لأنفسهم الوقت لكي يجمعوا آراءهم وينظموها. كما أن الاعتماد على المنظمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبرى يزداد يوما بعد يوم، «إن وجودنا الفردي ينحط شأنه من كل وجه من الوجوه، واحتفاظ المرء بشخصيته يزداد صعوبة جيلا بعد جيل.»
وقد وضح لنا في جلاء أن العالم المعاصر يعاني من اختلال التوازن بين التقدم التكنولوجي ونظرة العالم إلى شخصية الفرد، وذلك عندما تعرضت قيم المجتمع الحر من جراء ظهور الحكم الجماعي والتدهور الذي امتد حتى شمل العالم بأسره. وما إن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى كاد الناس جميعا يتفقون على أن الإنسانية أشرفت على عصر جديد من عصور الحضارة، وهو عصر أزمة طاحنة شاملة قربت بين شعوب العالم أجمعين، لا بروح المحبة التي حلم بها الفلاسفة ذوو النيات الطيبة في كل قرن من قرون الزمان، ولكن بانتشار الفزع في قلوب الناس جميعا، واشتراك الشعوب في الشعور بالخوف والهلع. وقد أخذ هذا الشعور يتزايد، والمشكلات تتضاعف، حتى آمن الناس بقرب انتهاء المدنية الغربية.
Page inconnue