Opinions philosophiques sur la crise de l'époque
آراء فلسفية في أزمة العصر
Genres
ومن الواضح أن اعتماد الفرد على المجتمع حقيقة من حقائق الطبيعة لا يمكن إهمالها، كما هو الشأن في حالة النمل والنحل. غير أن حياة النمل والنحل كلها تحدد أدق وقائعها غرائز جامدة موروثة، في حين أن التكوين الاجتماعي وتشابك العلاقات بين الأفراد يتخذان صورا مختلفة ويتعرضان لتطورات متعددة؛ فالذاكرة، والقدرة على رسم صور مختلفة من العلاقات، وموهبة الاتصال عن طريق الكلام، كل ذلك جعل بالإمكان تطور العلاقات بين الناس، تطورا لا تمليه الضرورات البيولوجية. ويتبدى هذا التطور في التقاليد والنظم والهيئات المختلفة، يتبدى في الأدب، وفي الأعمال العلمية والهندسية، وفي الإنتاج الفني. ويفسر لنا هذا كيف يحدث أن المرء يستطيع - بمعنى من المعاني - أن يؤثر في حياته عن طريق مسلكه، وأن التفكير الواعي والحاجة تستطيع أن تلعب دورا في هذه العملية.
يكتسب الإنسان عند مولده بالوراثة تكوينا بيولوجيا، يجب علينا أن نعده ثابتا لا يتغير، ويشتمل هذا التكوين على الدوافع الطبيعية التي تميز الجنس البشري. وهو - فوق ذلك - يكتسب خلال سني حياته تكوينا ثقافيا يستمده من المجتمع عن طريق اتصاله به وعن طريق مؤثرات عديدة أخرى. وهذا التكوين الثقافي هو الذي يتغير بمرور الزمن، وهو الذي يحدد - إلى حد كبير - العلاقة بين الفرد والمجتمع.
ولو سألنا أنفسنا: كيف ينبغي أن يتغير تكوين الجماعة واتجاهها الثقافي لكي تصبح الحياة الإنسانية مرضية بقدر الإمكان؟ وجب علينا أن ندرك دائما أن هناك ظروفا معينة نعجز عن إدخال أي تعديل فيها؛ فطبيعة الإنسان البيولوجية - كما ذكرت من قبل - لا تحتمل التعديل في الأغراض العملية، ثم إن التطورات التي حدثت في التكنولوجيا وفي نسب المواليد والوفيات في القرون القليلة الأخيرة قد خلقت ظروفا جديدة نراها اليوم قائمة بيننا. ففي المجتمعات الكثيفة السكان نسبيا، والتي تملك سلعا لا غنى عنها لاستمرار بقائها، في مثل هذه المجتمعات لا مفر من تقسيم العمل تقسيما واسع المدى، ولا مناص من إيجاد جهاز للإنتاج يتصف بالمركزية الشديدة. ولقد انقضى إلى غير رجعة ذلك الزمن الذي كان يستطيع فيه الأفراد أو المجتمعات الصغيرة نسبيا أن يكتفوا بذواتهم اكتفاء تاما. ولقد نعود بأبصارنا إلى هذا الزمن فنراه شعريا خياليا. وليس من المبالغة أن نقول إن الإنسان قد بات اليوم يؤلف مجتمعا كوكبيا للإنتاج والاستهلاك.
والآن أراني قد بلغت نقطة أستطيع عندها أن أشير في إيجاز إلى ما ينحصر فيه لب الأزمة في وقتنا الحاضر، إنه يتعلق بالصلة بين الفرد والجماعة؛ فلقد بات الفرد أشد إدراكا من أي وقت سبق لاعتماده على الجماعة، بيد أنه لا ينظر إلى هذا الاعتماد باعتباره ميزة إيجابية، أو رباطا عضويا، أو قوة وقائية، بل إنه لينظر إليه باعتباره عاملا من العوامل التي تهدد حقوقه الطبيعية، بل وكيانه الاقتصادي. وموقفه من المجتمع - فوق ذلك - يدعو إلى شحذ دوافع تكوينه الفردي دائما، في حين أن دوافعه الاجتماعية - وهي أضعف بطبيعتها - تتدهور شيئا فشيئا، وكل الكائنات البشرية - مهما يكن مركزها في المجتمع - تشكو هذا التدهور المستمر. إنهم يحسون - وهم سجناء أنانيتهم على غير علم منهم - أنهم يعيشون في قلق وعزلة، محرومين من استمتاعهم بالحياة استمتاعا ساذجا بسيطا لا تعقيد فيه. ولا يستطيع المرء أن يجد للحياة معنى - برغم قصرها ومخاطرها - إلا إذا كرس نفسه للمجتمع.
2
إن قيمة الفرد للجماعة تتوقف أولا على مدى توجيه مشاعره وأفكاره وأعماله نحو النهوض بمصلحة إخوانه في البشرية، وهو في أعيننا فاضل أو شرير وفقا لنوع شعوره إزاء المجتمع. وكأن تقديرنا للفرد يعتمد كل الاعتماد على صفاته الاجتماعية.
بيد أن هذا الرأي لا ينطبق على الصواب؛ فمن الجلي أن كل شيء مما له قيمة في المجتمع - ماديا كان أو معنويا أو خلقيا - يمكن أن يرد عبر الأجيال المتعددة إلى بعض الأفراد المبدعين. فاستخدام النار، وزراعة النباتات التي تؤكل، والآلة البخارية، كل شيء من ذلك كان من اكتشاف رجل واحد.
الفرد وحده يستطيع أن يفكر، فيبتكر بتفكيره قيما جديدة للمجتمع، بل يضع معايير خلقية جديدة تصاغ عليها حياة الجماعة. إن تقدم المجتمع بغير الأفراد المبدعين المستقلين في تفكيرهم وأحكامهم أمر لا يمكن تصوره كتقدم الفرد دون تربة المجتمع التي تغذيه.
3
يا له من موقف عجيب، موقفنا نحن أبناء هذه الدنيا! إن كلا منا يسير على وجه الأرض رحلة قصيرة، لا يدرك لها هدفا، وإن كان يحسب في بعض الأحيان أنه يحس به. ولكنا إذا نظرنا إلى الحياة اليومية، دون أن نتعمقها، ألفينا أننا إنما نعيش من أجل إخواننا في البشرية - من أجل أولئك الذين تتوقف سعادتنا بأسرها على بسماتهم وراحتهم أولا، ومن أجل كل أولئك الذين لا نعرفهم معرفة شخصية ولكنا مرتبطون بمصائرهم برباط العاطفة ثانيا. إنني أذكر نفسي مائة مرة كل يوم أن حياتي في الظاهر والباطن تتوقف على مجهود غيري من الأحياء والأموات، وأنه يتحتم علي أن أبذل جهدا كي أعطي بمقدار ما أخذت ولا زلت آخذ.
Page inconnue