Opinions philosophiques sur la crise de l'époque
آراء فلسفية في أزمة العصر
Genres
وليست هذه التطورات سوى حلقة أخيرة من السلسلة التي بدأت بتقدم العلم الحديث ونشوء القوميات الذي بدأ منذ عصر النهضة. والمشكلة الكبرى التي يواجهها الإنسان المعاصر هي هذه: هل يمكن لتقدم العلوم وقيام الحكومات الوطنية أن يكونا سبيلا إلى الحرية أو إلى زوالها؟ وقد بلغت هذه الأزمة مداها بتجمع القوى في دولتين كبيرتين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. أولاهما تدعو إلى الحرية، والأخرى تدعو إلى الخضوع. ومن هنا كان الدور القيادي الذي يتحتم على الولايات المتحدة أن تقوم به في سبيل إنقاذ مستقبل الحضارة الغربية.
ولكي تؤدي هذا الواجب الذي ألقي على عاقتها نراها تحاول أن تزيل كل عقبة تقف في سبيل إعادة البناء الاقتصادي لدول الغرب التي أقفرت وأفلست بعد الحرب العالمية الثانية، ورسمت لذلك عدة مشروعات؛ منها مشروع مارشال، وبرنامج النقطة الرابعة، والمعونة العسكرية للبلدان التي يهددها العدوان السوفيتي؛ كما فعلت في جنوب كوريا لكي توقف شمالها الشيوعي عن ابتلاع شبه الجزيرة كلها، وأيدتها في ذلك الأمم المتحدة. وكذلك فعلت الولايات المتحدة في كل بلد يهدده العدوان الشيوعي.
ولكن الولايات المتحدة - برغم هذا - ليست على ثقة من نجاح وسائلها، كما أن المثقفين وأصحاب الرأي خارج أمريكا يشكون في إمكان تغلب الديمقراطية على الحكومات الدكتاتورية؛ ومن ثم فإن فلسفة الديمقراطية - حتى حينما تتنزه عن الرأسمالية - ليست فعالة، بل وليست إنسانية، في نظر كثير من الناس، كما تزعم الشيوعية.
ولا تسلك الولايات المتحدة في سياستها الداخلية مسلكا يؤيدها في هذا الصراع الناشب بينها وبين الاتحاد السوفيتي؛ فهي تتناقض في سياستها الخارجية وتتدخل في شئون غيرها، ولا تقدر الملابسات حق قدرها، وهي تضطهد المعارضين للديمقراطية والمؤيدين للشيوعية بغير هوادة، ثم هي تفرق بين البيض والسود تفرقة عنصرية لا تجوز في القرن العشرين. كل ذلك يثير العداوة للولايات المتحدة أحيانا في بعض بلدان أوروبا وآسيا وأفريقيا، ويثير عليها الاتهام بالمادية وضيق الأفق. ومهما يكن من أمر فإن تضخم القوى في أمريكا يثير ضدها الشكوك. وكذلك كثيرا ما تضر طرق الدعاية الأمريكية بسمعتها.
وقد يعتقد الأمريكيون أن أسلوبهم في الحياة يخدم قضية الحرية، وأن الأسلوب السوفيتي يقضي عليها؛ ومن ثم فهم يؤمنون بأن الدول المؤيدة للحرية ينبغي أن تنضم كلها إلى المعسكر الأمريكي ضد الاعتداء الشيوعي. ولكي تحقق ذلك نراها تتبرع بالمنح والمعونات، مما قد يخدش أحيانا سيادة الدول التي تقبل هذه المنح وتلك المعونات. ولكن ذلك يهون في نظر الأمريكان إذا قيس إلى الذل والخضوع اللذين يفرضهما النظام السوفيتي. ووسط هذا الصراع بين الشرق والغرب يجد مبدأ الحياد ما يسوغه، خاصة وأن الدول المحايدة لا تعتقد أن روسيا أو أمريكا سوف تستخدمان ما لديهما من أسلحة؛ لأن ذلك معناه تدمير الدولتين، بل وتدمير العالم بأسره.
وكان لا بد لمقابلة هذه الحالة من نشوب الحرب الباردة، التي مهما كانت مساوئها فإن ضررها أخف على الناس من ضرر الحرب الشاملة. ولكن امتداد هذه الحرب الباردة يؤدي إلى تصوير القضية في نظر أهل الشرق بأنها قضية الاستعمار والتحرر من سيادة الرجل الأبيض، مما يضطر دول الغرب إلى التكتل ضد مزاعم الشرق. ولما كانت أمريكا في نظر الشرقيين تنحاز إلى الغرب، فإن المشكلة تتعقد تدريجا، ولا تجد سبيلها إلى الحل النهائي.
ولا ترى أمريكا التعايش السلمي حلا للمشكلة؛ لأنها ترى في انتهاج هذه السياسة ما يمكن للشيوعية من تعزيز نفوذها في مختلف الأقطار. ولا بد لمواجهة هذا الموقف من ازدياد قوة الغرب وتوحيد صفوفه، وفي ذلك إذن خطر على الدول التي تريد أن تحقق استقلالها كاملا.
وإذن فلا بد من معالجة الموقف الدولي في كثير من الحذر والحكمة. وإذا كان لا بد للولايات المتحدة من أن تتزعم قضية الحرية، فعليها أن تراعي ثلاثة أمور؛ الأول أنها يجب أن تدرك أن القضية ليست قضية النزاع بين الاشتراكية والرأسمالية، وإنما هي قضية الحرية والدفاع عنها. وفي هذا تتشكك في نيات أمريكا كثير من الدول، وبخاصة ما كان منها خاضعا للنفوذ البريطاني من قبل.
والأمر الثاني الذي يجب أن نذكره هو أن دور الدولة في جميع المجتمعات لا بد أن يأخذ في الازدياد؛ ذلك لأن الالتزامات التكنولوجية تقتضي زيادة نفوذ الدولة، وذلك مما يدعو إلى الحد من حرية الأفراد؛ ومن ثم كانت مهمة الولايات المتحدة شاقة عسيرة؛ لأنها تدعو إلى التحرر في وقت يتطلب فيه التطبيق العلمي زيادة الرقابة. ولم تعد خير الحكومات أقلها تحكما في العصر الحاضر، وإنما خيرها ما يكفل رفع مستوى المعيشة مع الاحتفاظ بالحرية السياسية. وقد يرى المؤيدون لازدياد نفوذ الدولة مقدمة لقيام الحكومة العالمية. ولكن ذلك لن يكون بطبيعة الحال إلا على حساب حريات الأفراد، الذين ربما أغراهم قيام الحكومة العالمية لمنع نشوب الحرب العالمية بالتضحية بحرياتهم الفردية، بل حريات الدول التي ينتمون إليها.
والأمر الثالث الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا هو أن زعامة الولايات المتحدة تتطلب التزام الآراء والمثل الداعية إلى الحرية. ولكن الدول الأخرى ترى في الولايات المتحدة دولة مادية تكتفي بإنتاج السيارات وأجهزة التليفزيون لإشباع رغبات الأفراد، والأسلحة الفتاكة والصواريخ لتعزيز النفوذ السياسي. ونحن لا ندعو إلى الحد من إنتاج هذه السلع لأنها أيضا تسد رغبات غيرنا من الأمم، ولكن ما يجب أن نذكره هو أنه إن كان المضي في هذا الاتجاه يحقق الآمال الأمريكية، فإنه يجب أيضا أن تتاح لغيرنا الفرصة للمضي فيما يرى أنه يحقق حريته في التعبير عن نفسه بطريقته. ولا يكفي أن نتحيز بطريقة العيش الأمريكية، بل ينبغي أن نلقي على الموضوع نظرة أشمل، فندرك ضرورة تكافؤ الفرص بين الأمم، والاحتفاظ بكرامة الإنسان. وبذلك تقوم أمريكا بدورها القيادي الجديد الذي يحقق في الحرية آراء ونظريات لم توضع من قبل موضع التنفيذ.
Page inconnue