فهذه القصص التي بين يديك، والتي ستقرأها بعد حين إن كنت من الصابرين، تحتاج مني إلى تهيئة وإعداد، كما تحتاج منك إلى جلد وسماحة طبع.
إن فيها قصصا رضيت أنا عنها، وأخرى رضي عنها قراء، وثالثة رضي عنها أصحاب صحف ومجلات ... ولكن ليس فيها قصة واحدة رضي عنها الجميع.
قصة «أقوى من الحب» مثلا عانقني عليها أحد الأصدقاء وأطنب في إطرائها، ثم تبينت بعد حين أن كل ما أعجبه فيها، هو أن الزوج بطل القصة عاد إلى زوجته بعد فترة من شرود العاطفة، ولحضرة المعجب الفاضل شقيقة كان زوجها قد هجرها حينا عاشت فيه عبئا على أخيها ثم عاد منذ أيام؛ أي إن المسألة كلها ظروف شخصية تتصل بجيبه، لا بتفكيره الأدبي وذوقه الفني!
وقصة «المغفل الثالث»، وهي قصة شاب وقع في حبائل غانية أمهر من غيرها. هذه القصة أعجبت عددا من القراء لا بأس به، ولست بحاجة لأن أحدثك عن الأسباب؛ فستعرفها بعد قراءتها، وأغلب الظن أنها ستروقك أنت أيضا.
وقصة «شارع الذكريات» لم يشاركني في الرضا عنها إلا شاب مهذب مجروح! جرح قلبه ذات يوم والتأم الجرح، ثم بقي الأخدود تسير فيه ذكرياته، كما سارت ذكرياتي في الشارع القديم.
وهكذا لو شئت أن أحدثك لوجدت أن دافع الإعجاب دائما عامل شخصي، لا تدخل فيه عوامل الفن، ومطابقة القوانين، ومراعاة المناهج. هذه العوامل إنما تقرر رأي الناقد لا القارئ، وإن رأي القارئ أيضا - كما ترى - رأي ذاتي في أغلب الأحيان، فهل ينقص ذلك من قيمته؟
أغلب الظن أن لا؛ فالإنسانية مجموعة الناس ذوي الظروف الخاصة والأحاسيس. والإحساس الواحد يحس به كل فرد في فترات مختلفة؛ فيحس أحدنا الحزن، ويحس الآخر الفرح. ومشاعر الحياة واحدة لكل فرد، مختلفة في ترتيب مروره بها؛ فكلنا نحس فقد الأصدقاء، ولوعة الحب، ونعيم الوصال، وشقاء الغدر، ولهيب الغيرة، ووقر الندم. من هذه الأحاسيس ومن غيرها تتكون مقومات مشاعرنا، وإنما يسمو الكاتب إلى النطاق الإنساني في تعبيره حين يمس هذه المشاعر، وقد تجرد قلمه من نزعة الذاتية. إن حزن القروية على جرة اللبن التي تكسرت حزن، وحزن السياسي الداهية على فشل برنامج ضخم حزن، وإذا وصل الكاتب إلى أعماق النفس البشرية فأخرجت ريشته الحزن عاطفة إنسانية، فقد وصل - بقلمه - إلى نفس السياسي وبائعة اللبن على حد سواء، وإلى كل نفس بشرية أحست الحزن من أقصى جنوب الأرض إلى أقصى شمالها، وإنما يعيب الكاتب أن يكون مقررا لا مصورا.
وعيب القصة المصرية إلى الآن هو أنها قصة تقريرية؛ الحزن فيها حزن مصري محدود بالإقليم والظروف والمناخ، والفرح فيها فرح محلي، والعواطف فيها مدموغة بأسماء المدن والأقاليم. وهذا لون من الأدب يفيد الباحثين عن الجديد الطريف، فيسر القارئ الأمريكي مثلا أن يقرأ القصة المحلية المصرية، بالضبط كما يسره أن يرى الجمل، ويتفرج على أبي الهول، ويرى قوافل البدو.
وهذا اللون من الأدب تمر به كل حياة أدبية لكل قطر، لكنها لا تقف عنده؛ فهناك الأدب الأمريكي والأدب الإنجليزي والأدب الفرنسي ... ولكن هناك أدب آخر هو الأدب العالمي؛ أدب يساهم فيه كل شعب متمدين، من فروعه القصة والشعر والمسرحية والمقالة ... إنه الأدب الإنساني الذي أشير إليه، والذي أطمع أن نصل إلى مستواه.
ما شأن هذا كله ومقدمة الكتاب؟
Page inconnue