فهل هذا صحيح يا ترى، أم هل هو وهم من الأوهام؟ إننا نلفت نظر القارئ إلى هذه الحقائق الراهنة: إن البكاء في بعض الشعوب الشرقية أكثر منه في الشعوب الغربية، وإنه في الشعوب اللاتينية أكثر منه في الشعوب الأنكلوسكسونية، وإن في الشعوب القاطنة الشمال، مثل أهل أسوج ونروج، يضعف فيهم الميل إلى البكاء، ويكاد يزول فهم قلما يبكون في الملمات.
فهل في الطقس عامل من عوامل البكاء؟ إذا قلنا: نعم كذبتنا شواهد الحال، فالعرب في شبه الجزيرة - وخصوصا أهل نجد - هم مثل الأسوجيين، وإن تعاكس طقس البلادين، فلا يحزنون حزنا شديدا على موتاهم، وقلما يبكون.
هل للتقاليد والتربية إذن فعلها في البكاء؟ إني أعتقد ذلك، بل أقول: إنها من عوامل البكاء الشديدة.
وإني - فوق ذلك - أسترعي نظر القارئ إلى هذه الحقائق الأخرى الثابتة: الصغار أسهل دمعا من الكبار، والنساء أكثر بكاء من الرجال، والرجال في الشعوب الهمجية والمتأخرة في التمدن، هم أسرع إلى ذرف الدموع والنحيب من الرجال المتمدنين، تنبئنا بذلك المنادب الإفريقية، وما لا يزال من أثرها في بعض البلدان، وقل في جبل لبنان.
إن في ذرف الدموع إذن، وفي فيضها وشحاحها، غير تهيج العواطف حزنا أو سرورا، وقد قدمنا الدليل على علاقتها من وجهة واحدة بدرجة الرقي والتمدن في الشعوب.
وهاك من وجهة أخرى ما يسترعي النظر، الولد يبكي حينما تصطدم إرادته اصطداما شديدا بإرادة أمه أو أبيه أو أخيه الأكبر، والمرأة تبكي إذا اشتد عليها كيد الزمان، أو كيد زوجها، أما الرجل فهو على الإجمال أقل بكاء من المرأة، فإذا كانت الدموع تفيد فلماذا تخص فائدتها بالأطفال قبل الأولاد، وبالأولاد قبل النساء، وبالنساء قبل الرجال، ويكاد يحرم الرجال خيرها، الآن الأولاد أضعف من النساء والنساء أقل قوة وتجلدا من الرجال؟ قد يكون ذلك، وقد تكون مسايل الدمع في الأطفال والأولاد والنساء أطرى وأرق منها في الرجال.
ومما لا ريب فيه أن الرجال إجمالا يحكمون العقل في الشدائد، والنساء يحكمن العاطفة، والأولاد مسيرون بالغريزة، يرى الطفل القمر فيمد يده إليه - يطلبه ثم يطلبه - فتعريه سورة من البكاء؛ لأنه أبى أن يجيه وبعد صراخه ودموعه يهدأ جأشه، وينسى أن القمر عصاه.
فهل أفادت الطفل الدموع بعد أن حرق ملحها وجنتيه ومآقيه؟ أم هل كانت الدموع نتيجة ملازمة لتهيجه واضطرابه؟
في الجواب على السؤال الأول سلبا أو إيجابا مجال للبحث، أما الجواب الإيجابي على السؤال الثاني فلا ريب فيه؟
أيحق لنا أن نقول إذن: إن الدموع نتيجة ملازمة لتهيج العواطف، حزنا أو ابتهاجا وهي قلما تفيد؟
Page inconnue