هوامش
الألم الشخصي والقومي
لا الحياة في حقيقة أحوالها، ولا الحياة في الأدب هي اليوم على ما كانت منذ خمسين سنة ولم تكن واحدة في الأصل وفي الصورة في الواقع وفي الكتب، لا في الغرب ولا في هذا الشرق العربي حتى في ذلك الزمان، فقد كان الأدب ومن ضمنه الشعر أدب تلفيق وتشويق، أدب صناعة وخيال على الإجمال؛ وكانت الحياة بالنسبة إلى حاضر حالها سهلة سلسة بسيطة.
وفي حالها الحاضر تنعكس الآية أو هي تسرع في اتجاهها المفصح بالانعكاس، أجل قد تعقدت الحياة وتعددت فيها أسباب التصنع والتزويق، كما تعددت فيها أسباب الراحة واليذخ، ولكن الصعوبات في ورود مناهلها، وفي حل مشاكلها هي كذلك آخذة بالتعدد والتعقد والاشتداد، أما الأدب ومن ضمنه الشعر في أوروبة، فهو يجرد يوما فيوما من الزيادات والزخرفات الصناعية والمعنوية، ويسير في السبل الجديدة القويمة القصيرة المنصوبة إلى جوانبها أعلام المحتجين - الحقيقة والبساطة.
لا يجوز أن نقول إذن: إن الأدب، إن كان في الماضي أو في الحاضر، يمثل الحياة تمثيلا صادقا في أصولها وفروعها، هو يردد صدى بعض أصواتها، ويمثل تمثيلا حقيقيا بعض مشاهدها ومعارضها، وينقل شيئا من ظلالها وألوانها ولكنه عند الحقائق الكبرى في مآسي الأسرة وفواجع المجتمع، ونكبات السياسة؛ يقف كالاله المكتوف اليدين، المعقود اللسان، وينظر إلى يمينه فيرى أنوارا تكاد تخنقها الظلمات، وينظر إلى يساره فيرى ظلمات تحاول أن تبددها مشاعل متوهجة، كأنها دنت من أواخرها في الاحتراق.
وفي هذه المشاعل مشعال الشاعر، ومشعال الفيلسوف.
وإذا انتقلنا من الموقف العام العالمي، وعدنا كما ينبغي إلى الموقف الخاص الوطني، لا نرى في الصورة الصغيرة كبير تغيير أو تبديل، إن في ألوانها الأساسية أو في ظلالها البارزة، فهي في مجملها قاتمة جاهمة إلا أن الاتجاه المركزي فيها هو أجنبي يبسط نفوذه على ظلالها وأنوارها، وقلما يتأثر بما هناك من عوامل الألم والبؤس والشقاء.
فلا عجب إذا بالغ أحد الأدباء المتناظرين في وصف هذه الحياة حياتنا، فقال: إنها سوداء ملؤها الظلم والعسف والقباحة والعار، حياة تدمي القلوب فنسيل ألما أليما، ثم صاح من أعماق قلبه إن الألم هو الحياة، وأن الألم هو الأدب، وإن الألم هو أصل كل إصلاح في الأدب وفي الحياة.
إن هذا الأديب يتألم حقا لألم قومه، ويريد أن يكون الشاعر في البلاد مرآة بيئته، وصورة مصغرة لأمته فهل هو كذلك؟
لا ريب عندي في أن الشاعر يتألم أكثر من سواه ولا ريب في أن ألم الشاعر هو أصلا شخصي أناني، وهو يظل في أكثر الشعراء النفسيين شخصيا قطب دائرته «أنا»، وهذه ال «أنا» التي لا تتوفق دائما في آمالها وتشوقاتها، تجسم الألم في أصحابها فيرون الحياة كلها جاهمة سوداء، وهم يدللون أنفسهم المتألمة كما تدلل الأم طفلها، ويذهبون في خيالهم مذاهب عجيبة فيتوهمون أن آلام الهيئة الاجتماعية من آلامهم، وأنها لا تزول ما زالوا هم الشعراء بائسين متألمين.
Page inconnue