ما أنت إلا مبتلى بجنون
فجعل المهدي جائزة لمن يأتيه برأس «الكويفر» الجداوي حيا أو ميتا، وبادرت الحكومة بإبعاده إلى أسوان عند استفحال الثورة مخافة عليه، فأقام في بلده، وفتح بيته الواسع لإلقاء الدروس الأدبية والدينية، وكان الرجل في عمله على النهج القديم، ولكنه كان على دأب تلاميذ الأفغاني جميعا نهما بالمعرفة، يطلب منها كل ما استطاع طلبه، ولو لم يكن من سلكه ولا اتجاهه.
من ذاك أنه تعلم اللغة الإنجليزية في شيخوخته على المرحوم نعوم شقير باشا، وكان يومئذ شابا ناشئا يعمل في قلم الترجمة بمعسكر الجيش، وقد ذكره نعوم باشا في كتابه عن السودان ...
ومن ذاك أنه تعلم الشعوذة، وألعاب السينما، وحيل الحواة حتى برع فيها ...
ولم يكن أعجب من مفاجآته حين يتكلم إلى أحد الضباط الإنجليز باللغة الإنجليزية، أو حين يجتمع بالموظفين والأعيان لمشاهدة «حاو» ماهر يبهرهم بألعابه، وكان «الحواة» يكثرون يومئذ في أسوان لازدحامها بالطارئين عليها، فيقف الأستاذ ويشمر عن أكمامه العريضة، ويفحم «الحاوي» المسكين في صميم فنه، أو يضربه بعصاه! •••
كان هذا النابغة الألمعي أوسع من لقيت محفوظا في الشعر والنثر.
كان يطارح وحده خمسة أو ستة من القضاة والمدرسين والأدباء.
والمطارحة هي أن تأتي ببيت من الشعر فيأتي مطارحك ببيت يبدأ بحرف القافية في البيت الأول ... فإذا اجتمع خمسة أو ستة من الأدباء كان لكل منهم أن يقترح بيتا، وكان الشيخ الجداوي هو الذي يرد عليهم جميعا ... فيسكتون في النهاية وهو لا يسكت، ولا ينضب معينه، وكان كثيرا ما يتعمد التعجيز؛ فيذكر في رده بيتين أو ثلاثة أبيات أو أربعة.
وكان يحفظ مقامات الحريري والهمذاني، ويلقيها أحيانا موقعة مفسرة، فيأخذني والدي معه إلى بيت الشيخ؛ لأنه كان من أصدقائه ومحبيه، أو يدعوني إلى حضور المجلس إذا زارنا الشيخ كما كان يفعل أحيانا.
ومن خصائصه أنه على قدرة فائقة في نظم الشعر المؤرخ، أو الشعر الذي يجتمع من حروف كل شطرة فيه أو كل بيت فيه تاريخ سنته. وقد نظم في استقبال الخديو عباس - عند مروره بأسوان في طريقه إلى السودان - قصيدة كبيرة في كل بيت منها تاريخان.
Page inconnue