زعموا - أو زعمنا لأنفسنا نحن الشرقيين - أننا خياليون، وأننا لو أصبحنا واقعيين لنفضنا عنا غبار الخمول، والحق الذي لا مرية فيه عندي أننا واقعيون فاشلون في الواقعيات، فليست قصور ألف ليلة ولا حسانها وجواهرها وموائد طعامها وشرابها خيالا يحتاج إلى ملكة من ملكات التصور والإدراك، ولكنها كلها واقع ناقص أو واقع موقوف التنفيذ، فإذا حصل التنفيذ حصل الواقع الذي يلمس ويرى ويشم ويذاق ... واليوم الذي نتخيل فيه، فنحسن التخيل هو اليوم الذي ننفض فيه غبار الخمول ... لأننا نحسن الوعي بهذا التخيل، ونطبع الصورة الصادقة في بدائهنا من صورة الوجود، ولن تنطبع في النفس صورة صادقة لما حولها وهي راكدة قاعدة، أو عازفة عن الحركة والسعي، والاستجابة لتحول الأحوال.
فكن على رأيي أو رأي غيري في الحفاوة بالشعر والشعراء، ولكن لا تجعل الشعراء مقياسك الذي تقيس به قدرة العمل؛ لأنهم يتفرغون للتعبير فيفوتهم التفرغ لما عداه من الشئون، واتخذ مقياسك من الأمم العاملة القائلة تجد أن الشعر الأصيل والعمل الأصيل يرجعان معا إلى فرد مقياس، وهو الوعي الأصيل.
وهممنا أن نترك الحجرة التي قضينا فيها معظم هذه السياحة فأنصفناها أعدل الإنصاف؛ لأننا في الواقع نقضي فيها معظم الحياة.
وعدل صاحبي عن الرفوف إلى الجدران، فقال: إننا دخلنا هذه الحجرة ونحن نقول: إن النور أخفى الأشياء؛ لأنه أظهر الأشياء، بل مظهر الأشياء، وها نحن أولاء نغضي عن الجدران الظاهرة، ونبحث عن الرفوف والصفوف، فمن هذا وما ذاك، وما هنالك على هذه الجدران التي رأيناها أول ما رأينا؟ ... ألم تكن أحق منا بالسؤال عنها أول ما سألنا؟!
وكانت على الجدران صورة فنية واحدة لا ثانية لها من نوعها وهي صورة الفتاة الحزينة على قبر حبيبها الدفين، وقد كتبت عنها في ساعة من الساعات بين الكتب فلم يكن السؤال بحاجة إلى جواب، أما سائر الصور فقد كانت أوضح من أن تحتاج إلى توضيح، جمال الدين ومحمد عبده وسعد زغلول، وكارليل وبيتهوفن، وصورتان من صنع الفنان النابغ صلاح الدين طاهر إحداهما صورتي بعد الأربعين، والأخرى بعد الخمسين!
ولقد تجمعت هذه الصور في أماكنها بمحض الاتفاق، في نيف وعشرين سنة، فلم أعرف لها وحدة تجمعها إلا بعد أن تجمعت وحدها، وساءلت نفسي عن تلك «الوحدة» كما كان يسألني الناظرون إليها.
قال صاحبي وهو يومئ إلى الصور واحدة بعد واحدة: هذا موسيقي ألماني، وهذا حكيم إنجليزي، وهذا مصلح أفغاني، وهذا وزير وهذا مفت، وهما مصريان! ... فما الذي جمعهم في صعيد واحد وهم بهذا التفرق في المواطن والشواغل والأهداف ؟!
قلت : الجد والكفاح ونبل السليقة وقلة الاستخفاف.
فهؤلاء الثلاثة شرقيون من رجال العمل والحركة، وأعمالهم فيها النهضة الاجتماعية والثقافة الدينية والثورة الوطنية، ولكنهم كلهم مجدون مكافحون نبلاء، لا يستخفون بما يعملون ولا يدينون بشريعة الاستخفاف التي يتراءى بها بعض الساخرين من الحكماء.
قال: لكأني بك لا تحب الساخرين!
Page inconnue