159

إننا نمر بالمائدة في الفندق العامر، فلا نستغربها وإن امتلأت بطعام جيد، ولكننا إذا رأينا هذه المائدة بعينها أمام ضيف واحد خطرت لنا التخمة أو خطر لنا الغثيان، ولنا المعذرة في هذه التفرقة بين المائدتين! ... •••

واحتجنا يوما إلى نقل بعض الرفوف من هذه الحجرة إلى الحجرة التي تليها ريثما نصلحها، ونفرغ من طلائها، فاستعنا بقريب لبواب المنزل يومئذ على النقل مع خدم البيت، وكان ريفيا أميا يزور قريبه أو يزور «آل البيت» على التعبير الصحيح، أو لعلها أول زياراته للقاهرة في طلب الخدمة، وطلب البركة على السواء ... ولم يكن له علم بالأحرف العربية، ولا بالأحرف الإفرنجية، فإذا رأى كتابا في هذه الأحرف أو في تلك فكله كتاب، وكله مما يقرؤه المطهرون.

فلما اقترب من باب المكتبة خلع نعليه وتهيب أن يمد يده إلى الكتب؛ لأنه - كما قال - لم يكن على وضوء!

أليس لهذا الريفي الأمي منطق صادق فيما فعل على البداهة؟ ... إنه تعود أن يقرن صورة الرجل العالم بصورة رجل الدين، فما باله لا يقرن كتاب العلم بالقداسة الدينية؟ ... وهل يكون الكتاب لغير علم أو لغير قداسة؟! ...

لقد أكبرت تحية الجهل للعلم في مسلك هذا الريفي الصالح، وأستغفر الله لأنني أفسدت سمعة الكتب في رأيه على الكره مني، فأعلمته أنها كأبناء آدم وحواء فيها الصالح والطالح، وفيها الطيب والخبيث، وأنها لا تحرم في جميع الأحوال على اللمس بغير وضوء، فلم أجرئه على حرمتها ولا أقنعته بلمسها، حتى أريته على غلاف بعضها صور التماثيل العارية، وفي صفحات بعضها صور السادة والسيدات، فتحلل من حرج وأقدم بعد إحجام ...

ولا إخال هذه «الهيبة» للكتاب بعيدة جدا من هيبة «المكتوب» عند القبائل الفطرية كما أنبأنا عنها رواد المجاهل الإفريقية؛ فإنهم لا يفهمون هناك كيف يقرأ الرجل الورقة ويفهمها ويعمل بما فيها دون أن يكون فيها روح مرصد أو طائف من الجان، وقد روى بعض الرحالين أنه أرسل خادمه الأسود إلى زوجته على مسيرة ساعات ليطلب بعض الأمتعة والأدوات من بيته، فكتب له ورقة، وأمره أن يأتيه بجوابها، فحمل الورقة مطمئنا، ولم يلق إليها كبير اكتراث، ولكنه لما رأى السيدة تقرؤها، وتراجعها كلما أسلمته أداة من الأدوات المطلوبة فيها خامره الشك، وأيقن أنها تستوحي بمراجعة الورقة روحا تفقه عنها ما تسأل عنه في صمت ووقار، فلما أسلمته السيدة تلك الأدوات تقبلها وحملها ولم يوجس منها، ولكنه تردد وأوجس حين أسلمته الورقة بالجواب! ... وحملها كمن يحمل ثعبانا يخاف أذاه، أو شيطانا يخاف سخطه وغضبه، وأدى الأمانة بتمامها؛ لأنه في حراسة رقيب ينقل عنه ما يظهره ويخفيه ...

قال صاحبي: ويح الأسود المسكين، لو انطلق عليه روح من وراء كل كلمة مخزونة في هذه الرفوف! ... إن عفاريت الآجام جميعها لتصبحن عنده من ملائكة الرحمة بالقياس إلى هذه العفاريت، وإن سحرة إفريقية على بكرة أبيها لا ينقذونه من وبال هذا السحر المخيف! ...

قلت: أولم يحصل؟ ... بلى قد حصل وفرغنا من محصوله! ... وقد انهزم السحرة المساكين في وجه هذه الأرواح، وهربت عفاريت الآجام من سطوة هذه العفاريت، وهل المعركة بين القارة السوداء وبين الواغلين عليها إلا المعركة بين الكتاب وتعويذة السحر القديم؟! ...

والتفت صاحبي إلى الرفوف يتصفح عناوينها، ويسألني: أولا يزعجك بعض الأحيان أن تخلع عن الكتب هذه الصورة، وأن تراها حاضرة الأرواح، جياشة الحركة بحياة مؤلفيها؟ ...

قلت: بل أنا لا أراها إلا على هذه الصورة كلما أعرضت عن صورتها الممثلة في الجلود والأوراق: أراوح في انتظار الطلسم، أو مردة في قماقم سليمان، وأين برج بابل من لهجات رف واحد ها هنا لو تحركت له ألسنة، وتفتحت له أفواه؟! ... وأين الجحيم كلها لو انبعثت المردة من أرصادها، وتمردت على الطلسم الأعظم الذي يحبسها في قماقمها؟! ...

Page inconnue