وكان اليوم التالي آخر أيام الدعاية، ولا بد لنا من أن نضرب فيه ضربتنا الأخيرة، فتفرقنا في أنحاء المدينة نعلن على الناس نبأ الاجتماع في السرادق الكبير الذي يحمل اسم «شباب دمنهور».
وقضيت ساعتين بعد الظهر في إعداد خطبتي، ثم ألقيتها مرتين لأسمع صوتي وأقدر ما يكون وقعها في الأسماع، فلما حانت الساعة الموعودة كنت مستعدا مطمئنا، وخفق قلبي سرورا عندما ذهبت إلى السرادق فوجدته مزدحما بألوف من أهل المدينة، واستقبلني جمعهم بالتصفيق والهتاف كأني أصبحت زعيما.
وقدمني الأصحاب لأتكلم أولا، وصعدت متمهلا وأخذت أخطب هادئا واثقا من عطف الأسماع، فما هي إلا دقائق قليلة حتى كنت أشعر بأني أسبح مع التيار، وعلا صوتي شيئا فشيئا واتقدت حماستي حتى لم أجد داعيا إلى قراءة خطبتي، فوضعت الأوراق وتدفقت في الحديث، وتحركت وكانت المعاني والصور تتمثل لي وتستولي على انتباهي حتى كدت لا أبصر شيئا مما تقع عليه عيني، فلم أتنبه إلى شيء إلا عندما لمحت فجأة أن هناك حركة في الصفوف المتزاحمة في السرادق، وسمعت أصواتا تتعالى عند المدخل، فتوقفت قليلا لأرى ما تلك الحركة الطارئة، فإذا الصفوف المتراصة تتحرك ثم تسري الحركة فيما يليها وما هي إلا دقيقة قصيرة حتى صار السرادق كله إلى فوضى شاملة، وبدأ البعض يتماسك بالبعض عند المدخل، وتعالت الكراسي وهبطت واهتزت المصابيح وانطفأ أكثرها، وتدافع الناس خارجين إلى الطريق من كل جانب، فلم أفهم من كل ما حدث إلا أن الاجتماع قد فشل وحلت محله معركة.
وأسرعت إلى مدخل السرادق متحفزا للعراك، والغضب يكاد ينفجر بصدري، فلما بلغت مكان المعركة رأيت بعض أصحابي مشتبكين في صراع عنيف، فاندفعت معهم أضرب بيدي وقدمي، وأصابتني لكمات كثيرة لم أعبأ بما نالني منها، ولم أقف لأفكر في جدوى ذلك العراك بعد أن ضاع علينا كل تدبيرنا، وفيما أنا منصرف بكل جوارحي إلى المعركة رأيت جمعا كبيرا يهبط علينا من أقصى الطريق وفي أيديهم هراوات يلوحون بها في الهواء ويصيحون: «يلا من هنا.» فتركت أنا وأصحابي من كان في أيدينا من الخصوم، ووقفت مبهوتا لا أكاد أصدق عيني عندما رأيت في طليعة العصابة شخص حمادة الأصفر يحمل في يده هراوة أطول من قامته، ويشير بها نحوي قائلا: «يلا من هنا!» فأغماني الغيظ عن كل حكمة واندفعت نحوه آخذا بتلابيبه قائلا: «أنت تقول لي هذا؟» وأحاط بي أصحابه ووجوههم تنطق بالشر، فتخلص حمادة من يدي وارتد إلى الوراء، قائلا في وقاحة: «لا تمد يدك إلي، يلا من هنا، قلت لك.» فقلت في حقد: «أيها النذل، أيها العبد!»
فضحك ضحكة عالية حتى بدت أسنانه ونظر إلى أصحابه الذين اندفعوا نحوي وصاح بهم: «دعوه يا جماعة، ارفع يدك أنت وهو! ثم اتجه إلي قائلا: ما لك أنت؟ أنا نذل وعبد وكلب ابن كلب. ما لك أنت؟ يلا من هنا!»
ثم وضع إصبعيه في فمه، وصفر صفيرا عاليا وقال: «اسمعوا يا جماعة! يحيا السيد أحمد جلال!» فصاح الجمع بعده يرددون هتافه وصفر لهم مرة أخرى وصفق وضحك صائحا: «هيسه!» مع المد الطويل، فضحكوا جميعا وصاحوا مثله، ثم صفر مرة ثالثة مثل القطار ورفع هراوته إلى كتفه وجرى أمام أصحابه وهم من ورائه يصيحون وتركوني واقفا في مكاني الذي لم يبق به غيري، وكان حنقي لا يزيد عليه إلا خجلي وشعوري بالخيبة، وتلفت حولي كالمذهول فلمحت حمادة الأصفر يعانق مصطفى عجوة في آخر الطريق، وا أسفاه! وطفرت الدموع من عيني وشعرت بقلبي كأن يدا قاسية تعصره، أهذا حمادة الأصفر الذي أراه حقا؟ وعدت إلى منزلي يائسا أحدث نفسي أنها مأساة مضحكة مبكية، هكذا يحشد السادة عبيدهم المحطمين دائما ليضربوا لهم أعداءهم، حتى يتمكنوا بعد ذلك أن يعودوا إليهم ليجلدوا ظهورهم بالسياط!
الفصل التاسع
تيقظت من نومي في الصباح على صوت أمي وأنا دهش من أثر السهر والتعب، ورأيتها تمد إلى يدها بورقة، فسألتها ما هي فقالت: «جاء بها رجل وقال: إنها مستعجلة.»
وكانت الورقة بخط رديء بالقلم الرصاص وفيها: «سيد زهير شياخة أبو طاقية صناعته وزان، ينبه على المذكور بالحضور في الساعة التاسعة صباحا لأمر هام إلى مركز البوليس.»
فقلت في نفسي: مركز البوليس؟ ماذا أفعل هناك؟ وبدأت أتذكر ما حدث في الليلة السابقة، وكانت الساعة عند ذلك الثامنة، فالوقت متسع لأفطر وأشرب فنجانا من الشاي، وأرتب في ذهني الحوادث التي وقعت، وقمت مسرعا لأستحم وأتوضأ، وكانت الساعة التاسعة تماما عندما بلغت مركز البوليس، ولم أكن خبيرا بأسرار مكاتب المركز، فعرجت على أول حجرة قابلتني، وسألت الجندي الذي كان فيها، فلم يرد علي لانشغاله بتلميع حذائه، وذهبت إلى الغرفة التي تليها، ولكن المكتب كان خاليا، فما زلت أخرج من غرفة إلى أخرى لسبب أو لآخر حتى بلغت آخر الردهة، وكانت طويلة مظلمة فيها حائط على اليمين وأبواب على اليسار، ووجدت في النهاية غرفة مزدحمة بأخلاط من الناس عليهم مظهر البؤس والشراسة، فعرجت على اليمين في ردهة أخرى، فوجدت في صدرها حجرة صغيرة فيها مكتب يجلس عليه جندي ضخم له أربعة أشرطة حمراء على ذراعه، وشارب مفتول في وجهه، وهممت أن أسأله عن سبب دعوتي ولكني لم أجرؤ؛ لأنه بدأ في تلك اللحظة يصيح بأعلى صوته يخاطب شابا أمامه قائلا: من أنت؟ من أنت حتى تجيبني بهذه اللهجة؟
Page inconnue