وفرك إصبعيه كالعادة.
فقلت متعجبا: كان معك خمسة جنيهات غير الجنيه الذي أخذته مني.
فضحك مرة أخرى قائلا: كانت في جيبي ... وأخذتها المرأة طبعا، هي حقيرة مثلي، ونحن نتعامل في صراحة، هي تسرقني وأنا أسرقها، هي تقول لي: يا وغد، وأنا أقول لها: يا ساقطة، ولكنها مع هذا تؤويني ولا يجرؤ أحد آخر على إيوائي، كانت المرأة الأخرى حقيرة مثلها، ولكنها وجدت من يخطفها مني، فأقفلت بابها في وجهي، ها ها ها ها.
أتعرف من هي؟ زينب التركية، زينب الشقراء، أتعرف من هو ...؟ صاحبها، الرجل العظيم الذي كنت أصفق له وأصفر وأهتف، كان ذلك منذ سنوات طويلة، رآها مرة عندما بعثتها إليه تطلب بعض النقود؛ لأني كنت مريضا، وهي بغير شك جميلة يا سيد أفندي، فأسعفني ببعض النقود ولكنه خطفها مني، أتفهم؟ وبعد أسبوع واحد طردتني من بيتها ها ها ها. النهاية يا عم سيد، عمر الشقي بقي، لم أمت عند ذلك وقلت لها: في داهية، وذهبت إلى زينب الأخرى، زينب الفلاحة التي أعيش عندها، وهي تعاملني وأعاملها كما يعامل الكلاب بعضها بعضا، أليس معك نقود يا بو زهير؟
فأخرجت من جيبي ورقة بخمسين قرشا وقذفتها أمامه، ودفعت إلى خادم القهوة ثمن الشاي، وكانت الساعة قد بلغت منتصف الليل.
فقلت لحمادة: أظنك تقدر على السير وحدك. ألا تحاول أن تكون رجلا؟
فضحك قائلا: ومن قال لك إني أريد أن أكون رجلا؟ اذهب إذا شئت ودعني، أنا حشرة، أنا كلب ضال، دعني أسرع، دعني أجري، طريق عفنة مظلمة كلها خوف وقذارة، خوف بالليل والنهار وخوف من أمامي ومن خلفي، قلبي وعيني وسمعي كلها مخاوف، الأمس مخيف والغد مخيف والحاضر فزع، وأنا أجري وأجري أطلب النجاة، ولكني أتعثر وأقع وأتخبط والطريق مظلم والأوحال تجعلني أنزلق، ومن ورائي أشباح كثيرة تطاردني، فأسرع لكي أتخلص، أتخلص من هذه الحياة ومن الأشباح التي تطاردني فيها، ولكني لا أرى أمامي طريقا للهرب، أتعرف الخوف يا سيد أفندي؟ هو الذي يجعلني أهرب، ولكني عندما أحاول الهرب لا أجد مكانا أهرب إليه، فأهرب من نفسي، أريد النسيان لأهرب، أريد المرأة لأهرب، أريد الخمر لأهرب، اذهب عني أنت ودعني.
وامتلأ قلبي غما مما سمعت، وكان منظره وهو يتكلم يشبه منظر المجنون الثائر، فانصرفت من أمامه حزينا أسائل نفسي: هل يستطيع أحد أن ينقذ ذلك المسكين؟ وعدت إلى المدينة وأقوال حمادة البائس اليائس تتردد في ذهني، وكانت الطرق خالية موحشة والدكاكين مغلقة، ولكن الجو كان رطبا لطيفا، ولما وصلت إلى كوبري السكة الحديدية اتجهت في الطريق المؤدي إلى شبرا، وهو طريق مظلم زاده السكون رهبة لولا رجل مخمور آخر يسير متطوحا ويغني: «الفجر أهو لاح قوموا يا تجار النوم!» هو الآخر يحاول الهرب والنسيان ولكنه يغني، وتركته ورائي لأنه كان يتقدم خطوة ويتأخر خطوة، كم بين الناس من هؤلاء المساكين الذي يحطمهم الخوف! أيستطيع أحد أن يمد إليهم يد المساعدة؟
وبلغت منزلي وكانت أمي وأختي تنتظران في قلق من غيابي، وحاولت أن أظهر لهما هادئا، بل حاولت أن أكون مرحا، ولكني استأذنت لأذهب إلى غرفتي، وما كدت أدخلها حتى وجدت نفسي أبكي بكاء مرا.
وكان ذهني يضطرم بشعور مختلط من الحزن والغم والرثاء والعجز والضآلة، كانت صورة حمادة تمر في خيالي في أوضاع شتى بين تاجر الأسواق المرح وبين قائد المظاهرة المهرج وبين السكير البائس المحطم.
Page inconnue