وكاد قلبي ينفجر من الغيظ ولكني لم أتكلم، وأخذت كوب الشاي لأشغل نفسي به حتى لا أظهر اضطرابي.
ومضى هو يقول: قلت للسيد إنك شاب طيب ومن أسرة طيبة، والسيد أحمد نفسه يقول إنه يعرف والدك وعمك، الذي كان حكمدار المديرية. هل كنت أنا أعرف هذا؟ فقلت إنها فرصة لأودي لك خدمة وأظن أني نجحت. قلت له إن الفقر والغنى من الله، وأنك ستكون غنيا في يوم من الأيام ولم لا ؟ ألم يكن هو الآخر فقيرا، ولما وجدت أنه لم يغضب قلت له أيضا إنك تحمل شهادة الثقافة ولمحت له أن الزواج يجب أن يكون على أساس المحبة.
فوثب قلبي إلى حلقي وقمت واقفا وقلت له: اسمع يا دون، لا تحسب أنك طعنتني أو قدرت لي على أذى، وأحب أن أقول لك كلمة أخرى لعلها تنفعك إذا نقلتها للسيد أحمد جلال.
وبدلا من أن يغضب مد يده إلى القطعة الباقية من السكر ووضعها في فمه وشرب عليها بعض الماء، وجعل يمصها وهو يقول: «عجيبة يا سيد أفندي» ولولا خشيتي من أن أحدث فضيحة لهشمت أنفه الغليظ بقبضة يدي، وقلت له: أعلم أن إيقاعك عند السيد أحمد لا يهمني، ولن أدافع عن نفسي، وسأنتظر صامتا حتى أرى النتيجة. أنت تريد أن توقع بيني وبين الرجل لأمر في نفسك. هذا خبث قديم لا أجهله، ولكن قد ينفعك أن تعرف أني لست عبدا مثلك، ولو صدق هذا الدس الذي تدسه لي لكنت سعيدا أن أترك محلجه، ولن أبقى في محلج السيد أحمد جلال يوما واحدا إذا صدق كلامك، أهذه أقوال تنفعك؟
ونظرت إليه نظرة نارية وانصرفت من القهوة وقلبي يغلي، واتجهت إلى منزلي فلم أعد إلى المحلج حتى أنتظر النتائج بغير أن أحرك ساكنا، وقلت لنفسي إن أكبر ما أخشاه أن يطردني السيد أحمد، ولمحت في قلبي لونا من السرور عندما فكرت في هذا لأتخلص من عملي في المحلج بغير أن أكون أنا البادئ بالقطيعة، فلماذا لا أبدأ بالتجارة وقد تجمع لي أكثر مما كان عند السيد أحمد عندما بدأ بالتجارة؟ وقضيت ذلك اليوم والليلة التي بعده أحاول أن أشغل نفسي بشيء عن التفكير في نفسي، فأخذت أقرأ حينا وأكتب حينا آخر ولكن فكري كان دائما يعود إلى التجارة. لماذا لا أبدأ من الغد بأن أشق طريقي في الأسواق؟ عند ذلك فقط أستطيع أن أتقدم إلى السيد أحمد جلال وأقول له ما أشاء، ولكن ألم يخطبها محمود خلف؟ هل خطبها حقا؟ وهل يمكن أن تحدث خطبتها هكذا بغير أن يعرف عنها أحد شيئا سوى مصطفى عجوة؟ وجعلت أستعرض المشروعات التي يمكن أن أبدأ التجارة فيها. جنيهات قليلة هي التي في يدي، وماذا تكفي؟ هل أذهب إلى الأسواق لأشتري بعض القطن بالرطل والرطلين والعشرة ثم أبيعها؟ كان هذا ممكنا منذ خمسين سنة وكان كافيا ليصبح السيد أحمد جلال غنيا، ولكن لماذا لا أحاول؟ ومن يدري؟
وخرجت من منزلي هائما في المدينة وما حولها متلفتا حولي إلى المتاجر وإلى وجوه المارة. لماذا لا أضرب في الحياة مثل هؤلاء؟ هل كل هؤلاء يعملون في المحالج؟ ونمت في آخر الليلة نوما عميقا بعد أن تعبت من السير، وسررت عندما قمت في الصباح هادئا نشيطا.
وذهبت إلى المحلج بغير تردد متوقعا أن يكون مصطفى قد وجد الفرصة الكافية لإتمام مكيدته: وكان كل همي أن أستطلع ما يخبئه لي اليوم من المفاجآت.
ولكن السيد أحمد استقبلني كالعادة سمحا مهذبا وقال: لا بأس عليك يا سيد أفندي؟ لم تحضر بالأمس بعد الظهر.
فقلت له: أشكرك يا سيدي. كنت متوعكا قليلا.
وبدأت أحسب أن كل ما قاله مصطفى عجوة كان ادعاء وكذبا لا يريد به إلا أن يملأ قلبي غيظا، وأقبلت على عملي منشرحا، وكان الزحام حولي على أشده لأني لم أحضر بالأمس بعد الظهر، ولم أجد وقتا للذهاب في ساعة الظهر للغذاء، فبعثت أشتري رغيفا وقطعة جبن وأكلت وأنا أعمل، ولم يتركني مصطفى، بل جاء إلي قبل الغروب، ووقف قليلا إلى جنبي ولاحظت أنه كان يقرأ الأرقام التي أكتبها وينظر إلى الميزان، وكانت هذه أول مرة أراه يقترب مني هكذا ليراقب عملي، ولكني لم أعبأ به ولم أوجه إليه كلمة تجاهلا مني له.
Page inconnue