ولما عاد الأستاذ طلب فنجانا آخر، وأخذ يقرأ الأوراق متمهلا ووجهه يزداد احتقانا، وعاد الضيف بالأمس، وكانت بينهما مشادة عنيفة، وأرسلني الأستاذ بعدها لأستخرج له جواز سفر إلى أوروبا. ألا ترى أنه يخاف من التورط؟
أين تقيم يا أستاذ سيد؟
فقلت في تردد: في فندق الأميرة الصغيرة.
فقال وهو يهم بالانصراف: سيسره جدا أن يعرف عنوانك، كل يوم يسأل عنك، إلى اللقاء يا أستاذ.
ومضى بعد أن حياني تحية حارة وشكرني، وبقيت وحدي أجتر ما سمعته على مهل مع كأس أخرى من الشاي، وخطر لي أن الأستاذ علي مختار ليس وحده الذي يشفق على نفسه من التورط، وأي عاقل لا يخشى أن يذهب إلى السجن بعد أن يذوقه مرة؟ ذلك السجن الذي يحول القاتل الجبار إلى جبان يرتعد هلعا، ولكني عدت إلى نفسي أقول: إن اللوم علينا إذا تركنا أنفسنا لهذا الخوف ينحرف بنا عن غايتنا، فلو خشي المجاهد في ميدان القتال أن يصاب بجرح مرة ثانية لما عاد إلى الميدان أبدا، والذي ينجو من الغرق مرة لن ينزل إلى الماء إذا لم يقاوم خوفه من الغرق.
وهكذا مضيت في أفكاري حتى صارت الساعة الخامسة بعد الظهر، فقمت أسير على قدمي نحو دار بريد الأحرار؛ لألقى الأستاذ علي مختار.
الفصل الثاني والثلاثون
لم نلبث بعد أن لقيت الأستاذ علي مختار أن بدأنا المعركة ثانية، وأخذنا نواجه الموقف في صراحة؛ ففي اليوم التالي لعودتي إلى «بريد الأحرار» نشر المقال الذي كتبته بعنوان عريض على أنهار الصفحة الأولى كلها: «الخيانة القومية الكبرى - فضيحة الأسلحة الفاسدة - نقتل أبناءنا بأيدينا!»
ولم يخف الأستاذ علي مختار شعوره الحقيقي عندما دخلت عليه في الصباح وكان يقرأ المقال؛ إذ قال لي بغير مواربة: هي معركة الحياة أو الموت يا أستاذ سيد.
فقلت: بل معركة الحياة يا سيدي، وهل تستحق الحياة أن نحرص عليها إذا استمرت هكذا؟
Page inconnue