وكان لهذه المودة التي نشأت بيني وبين من في المستشفى أثر كبير في تخفيف وطأة السجن علي وفي تسهيل زيارات أهلي وأصحابي.
وكانت أول زيارة مفاجأة سارة بعد عشرة أيام من انتقالي إلى المستشفى، وذلك في الساعة التاسعة من المساء في ليلة مظلمة كان الحارس «مجاهد»، أو اللواء «مجاهد» كما كنت أسميه، يحدثني كعادته بلهجته الصعيدية الظريفة عن بعض مغامراته في حرب فلسطين، وعرى ذراعه فكشف لي عن جرح كبير فيها وأخذ يحكي لي قصة ويمزج وصفه الساذج بفكاهات ساخرة عن القنابل «الرفاسة» التي كانت دائما تضرب إلى الوراء كأنها بغال خبيثة، ورأيته يلتفت فجأة ويرفع بندقيته ويصيح في عنف: «من هناك؟» وخيل إلي أنه على وشك أن يضرب، فأجابه أحد القادمين قائلا: «عوض الله»، فعاد إلى وقفته الأولى، وتقدم عوض الله أفندي رئيس التومرجية ومن ورائه شخص يتعثر في معطف أبيض من ثياب الممرضين، ولم أعرف من هو حتى خرج من ظل الجدار وبدأت أشعة مصباح الغرفة تقع على وجهه فصحت قائلا: «حمادة! ماذا جاء بك إلى هنا؟»
وتنحى اللواء مجاهد حتى وقف على مسافة بضعة أمتار منا، ولأول مرة في حياتي أخذت حمادة بين ذراعي، وكان يحمل في يده ربطة وضعها على المنضدة قبل أن يعانقني وقلت له: «كيف عرفت أني هنا؟»
فقال ضاحكا: أمال يا عم، تهرب من السجن بغير أن تترك لنا العنوان الجديد؟
وقام فحل الربطة وأخرج منها صندوق السجاير وعلب الحلوى، وأخذ يقدم منها إلي وإلى عوض الله أفندي واللواء مجاهد، ثم أخذ يحدثني عن أمي وأختي وعبد الحميد والشيخ مصطفى وفطومة، كانت فطومة تريد أن تحضر معه ولكنها تكاسلت في آخر لحظة.
فقلت باسما: إذن لم تسافر إلى دمنهور.
فقال: ما لي أنا يا سيدي، هنا وطني.
فقلت: وانتهيت؟ أقصد عقدت العقد؟
فقال: اشترينا الملبس والشربات، وذهبت إلى المنزل على حسب وعد الحاج مصطفى، ولكن الست فطومة حلفت ما يمكن العقد حتى يخرج سي سيد من السجن، قلت: الحق معها، يا سلام يا أستاذ!
وكان عوض الله أفندي قد عاد إلينا بعد أن غاب في جولة بالمستشفى وطلب من حمادة أن ينصرف.
Page inconnue