174

ونظرت إليه في حقد وكانت ابتسامته ما تزال تثير غيظي، وتمثلت لي صورة غرفتي التي يمكن أن أتصل بها تليفونيا لأستحضر منها ما أشاء، ثم تذكرت الأستاذ علي مختار وجعلت أسأل نفسي: «ألا يعرف أني هنا؟ أهكذا يتركني لشأني كأنني لا أستحق أن يقف إلى جانبي؟»

وقلت للمحقق في حنق: لست في حاجة إلى شيء.

فرفع كتفيه قائلا: هذا شأنك، ولم أقل له شيئا سوى نظرة غاضبة وهو يهمس إلى الشرطي الذي دخل إلى الغرفة في تلك اللحظة، فحيا الشرطي صادعا بالأمر وأخذ منه الورقة التي مد بها يده إليه، وأخذني من ذراعي خارجا بي من باب الغرفة إلى حيث لا أدري.

وسرت معه وقلبي يغلي غليانا شديدا من الشعور بأني أمام قوة جبارة لا تتمثل في شخص بعينه حتى أتمكن من الدفاع عن حريتي أمامها.

كان الشرطي يقبض على ذراعي في شيء من الترفق، ولكني كنت أحس أنني لا أقدر على الانفلات منه أو مقاومته، ولأول مرة شعرت أن هناك شيئا هائلا مجردا عن الأشخاص والهيئات اسمه الدولة، هي التي تجرني من ذراعي إلى حيث تشاء ولا أستطيع أنا أو غيري من الأفراد أن يقاوم قوتها، ولم يكن في وسعي أن أحنق على ذلك الشرطي، الذي يجرني من ذراعي؛ لأنه كان يؤدي واجبه بغير أن يكون بيني وبينه ما يدعو إلى الخصومة أو الكراهة، ومن يدري لعل هذا الشرطي كان يعطف علي في قرارة نفسه؟ لقد كان فيما ظهر لي رجلا طيبا، وكانت نظرته نحوي مهذبة وديعة تنطق قائلة: «أنا آسف ولكن ما حيلتي؟»

بل إنه أظهر عطفه علي عندما مال نحوي هامسا: «أتحب أن تشتري شيئا؟»

فأجبته قائلا: «أشكرك».

وكانت عربة مغلقة تنتظر عند الباب الخلفي للمبنى، فركبتها وأغلق الشرطي الباب، وسارت العربة في طريقها وأنا منطو على نفسي، حتى وقفت آخر الأمر ونزل منها الشرطي ليأخذني من ذراعي، وعرفت عند ذلك أني داخل إلى قسم عابدين، حسنا!

ودخلنا إلى غرفة الضابط فحياه الشرطي ومد إليه يده بالورقة التي معه، فقرأها الضابط وأشار بيده نحو غرفة بغير أن يقول كلمة سوى أنه نظر نحوي نظرة فاحصة من أعلى رأسي إلى آخر ما يستطيع أن يرى مني وأنا واقف وراء مكتبه، ولم أجد ضرورة لإجابته بنظرة غاضبة؛ لأني شعرت بما يشبه الاستعلاء عن الاهتمام بالأفراد، ما لي وهؤلاء جميعا؟ إنهم يأتمرون بأمر آلة ضخمة لا يملكون لي معها ولا لأنفسهم شيئا.

وأدخلت إلى غرفة فيها مكتب صغير واحد ليس فيها شيء غيره من الأثاث، وتركني الشرطي فيها وأغلق بابها ولا أدري أذهب إلى سبيله أم بقي واقفا خارجها، ونظرت إلى ساعتي وكنت لم أفطن إلى النظر إليها من قبل فوجدتها الساعة الرابعة بعد الظهر، يا سلام! لم أفطر في الصباح ولم أطعم شيئا طول النهار، ومع هذا لم أجد فراغا للاهتمام بطلب الغداء، وهجم علي الشعور بالجوع وشعرت بأني ضعيف لا أكاد أقوى على الوقوف، فجلست على ظهر المكتب وكانت النافذة التي ورائي تطل على خلف مبنى القسم، وأستطيع أن أرى منها المتاجر من بعيد، فغيرت موضعي حتى أقدر على النظر إلى الخارج لأشعر بشيء من الائتناس، وسألت نفسي ألا يمكن أن أشتري شيئا آكله؟ ونزلت مسرعا عن المكتب فحاولت فتح الباب، ولكني وجدته مغلقا بالمفتاح، فخبطت عليه بيدي فلم يلبث أن فتح ورأيت على بابه شرطيا من جنود القسم، وهز رأسه إلي مستفهما فقلت له في هدوء: ألا يمكن أن أشتري طعاما؟

Page inconnue