156

وكنت متعبا إلى حد الإعياء من السفر في الليل والقطار الصعيدي البطيء، ولكني فكرت في القيام من ساعتي للبحث عن حمادة الأصفر لأناقشه الحساب، وهممت بالقيام ناظرا في ساعتي وكانت ما تزال السابعة صباحا.

فقالت أمي في دهشة: إلى أين يا سيد؟ اقعد قليلا يا ابني ولا تضايق نفسك ، يا منيرة جهزي الشاي يا بنتي ولقمة صغيرة، مسكين يا ابني الحق علي لأني أزعجتك ... مسكينة يا بنتي، الله يرحم السيد أحمد جلال كان أمله ومنى عينه أن يرى عرس منى ولكنها آجال، النهاية يا ابني الحمد لله الموضوع انتهى، ولما أردت القيام قامت منى توصلني وقالت لي بلغي سيد أفندي أن الموضوع انتهى، والله يا ابني خرجت الكلمة من لساني وقلت لها: «الله يخيبه حمادة الأصفر؛ لأنه أخذ الثمن مرتين.» لا تغضب يا بني والله ما ملكت نفسي، واندهشت منى وقالت: «مرتين؟» ولما قلت لها الحكاية كلها ظهر عليها التأثر، وقالت: «لا بد لي من سؤال سيد عن الحقيقة.» وحلفتني أن أبعث إليها في أول مرة تأتي فيها إلى دمنهور، ولكني خفت أن الموضوع يبرد وقلت لمنيرة: يا بنتي سيد غاب عنا من شهور، اكتبي له يحضر في مسألة ضرورية، من جهة نطمئن عليك ومن جهة ثانية ...

وقلت مقاطعا أمي: إذن هي مؤامرة ثانية لعصابة أخرى من الأنذال بقصد السطو على منى، هذا الباشا يريد أن يلعب بها على ما يظهر ولا بد لي أن أقابله وجها لوجه كما قابلت حمادة الأصفر في المرة الأولى.

فقالت أمي في فزع: ماذا نقول يا سيد؟ تقابله وجها لوجه؟ يا ليتني لم أبعث إليك ولم أقل لك شيئا، ما لنا والباشا؟ لا تقابل الباشا وابعد عنه وكفاك الله شره يا بني، انتظر حتى تهدأ يا سيد ثم اذهب إلى حمادة الأصفر.

وجاءت منيرة بعد قليل فوضعت صينية الشاي على المنضدة وقربتها مني وأخذت تملأ الفناجين، وجاهدت نفسي حتى استطعت أن أنتظر، وعادت منيرة إلى حديث العمة وأولادها، ولكني كنت منصرفا إلى التفكير في المسلك الذي ينبغي لي أن أسلكه، كنت حائرا لا أدري من أين أبدأ، ولما فرغت من الإفطار كانت الساعة الثامنة من الصباح.

فقلت لأمي: أظن الأحسن أن تأتي منيرة معي إلى «البقالة الرشيدة» لتحدث منى بالتليفون وتخبرها بوجودي هنا.

فقالت منيرة: ما شاء الله! استفتاح عظيم أن أذهب إلى المحل في الساعة الثامنة وأطلب منه كلمة تليفونية، ألا ترى أنك أيضا في حاجة إلى غسل وجهك ومسح التراب عن ملابسك، كما أني لا أستطيع الخروج هكذا؟

وتذكرت عند ذلك فقط أني في حاجة إلى شيء من الاستعداد للخروج في المدينة، وأن الناس لا يستقبلون أحدا في بيوتهم في مثل هذه الساعة.

ولما صارت الساعة التاسعة كنت أكثر هدوءا واستراحة بعد أن اغتسلت وغيرت ملابسي التحتانية ونظفت ملابسي من الغبار، ولكني عندما عزمت على النزول كانت منيرة ما تزال تستعد وتمشط شعرها، ولما استعجلتها صاحت من داخل الغرفة: تفضل أنت فإني غير محتاجة إلى خفير.

فنزلت وحدي متجها إلى المحطة لأبعث تلغرافا إلى بريد الأحرار معتذرا عن غيابي، ثم واصلت سيري إلى بيت صاحبي عبد الحميد بعد أن استقر رأيي على الابتداء بزيارته.

Page inconnue