فقلت: وأين المنزل؟
فأشار إلى ورائه إشارة مبهمة قائلا: قريب من هنا، في الخدمة يا سيد أفندي.
وخرجت من الدكان أسير إلى غير قصد لأقطع الوقت حتى يأتي المساء، وجعلت أنظر حولي حتى لا أضل الطريق عند عودتي، وكانت المناظر متشابهة والأبنية كلها عالية كأنها توائم، لا يمكن تمييز أحدها عن الآخر، فعرجت على أقرب قهوة حتى لا أبعد في المسير، وكانت الساعة قد بلغت الثالثة والنصف.
وكان اسم القهوة «نادي الأدباء»، فسررت إذ وجدته فألا حسنا، وجلست في ركن على جانب الطريق، وطلبت فنجانا من الشاي، وأخذت أفكر فيما أفعل، وكان منظر الطريق مسليا كأنه فلم سنمائي لا تنقطع فيه الحركة، فخطر لي أن أقيد ملاحظاتي حتى لا تشرد مني تشبها ببعض من قرات عنهم من الأدباء، وفتحت عيني لكل ما يمر بي، وأخرجت كراسة صغيرة كانت في جيبي، وأخذت أنظر وأكتب، يا لها من لحظات سخف ما أزال أضحك منها كلما تذكرتها، وما أزال إلى اليوم محتفظا بهذه الكراسة الصغيرة كتذكار لهذه الجلسة.
وأضاءت الأنوار إيذانا باقتراب المساء، فقمت وكانت الساعة السادسة، فلما وصلت إلى دكان الشيخ مصطفى وجدته ما يزال جالسا على الدكة عند مدخل الدكان، وإلى جواره عدد من الناس يأكلون وهم وقوف ويتحدثون أحاديث شتى تتخللها السخرية، ويمضغون كلماتهم مع اللقم التي يقضمونها من الأرغفة التي في أيديهم، هي السياسة دائما.
فجلست على الدكة إلى جانب الشيخ، وشاركت في الحديث، وكان يدور حول ما يتناقله الناس من فضائح، كأن المدينة قد خلت إلا من أعوان الشيطان.
وكان الشيخ مصطفى محور تلك الأحاديث، يضيف إلى كل قول كلمة من رأيه تثير ضحكة عالية.
ولما صارت الساعة الثامنة صرت لا أحتمل البقاء طويلا، فقلت للشيخ: متى تعود إلى المنزل؟
فنظر إلى ساعته وقال: يا سلام! أتحب أن نذهب الآن؟
فقلت: أحب أن أستريح إذا أمكن ذلك، فنظر إلى أصحابه قائلا: عن إذنكم يا جماعة، تعالوا نتم سهرتنا في المنزل ونوصل صاحبنا هذا.
Page inconnue