10
اتصلت بصديقي رئيس قسم اللغة العربية لتجديد إجازتي، فأخبرني أنها السنة الثامنة - فالقانون يسمح بخمسة أعوام فقط - شكرته جزيلا، فاستطرد يكلمني عن امتنان كثير من المصريين لعدم صمتي عن الفساد المنتشر في حنايا مصر، وخصوصا داخل الجامعة، وعن امتنانهم لنجاحاتي في الغربة. أعربت عن تفهمي لما يقول، وسألته: هو ليه مستحيل أن أدعى لعضوية مناقشة رسالة ماجستير أو دكتوراه؟ - لا، أبدا، ليس مستحيلا، المسألة أنه ليس هناك رسائل في تخصصك. - هو دا صحيح؟ واحدة من تلامذتي نوقشت رسالتها من أسبوعين.
رد بسرعة متسائلا: حقيقي؟ قلت له: نعم لقد تواصلت معي، بل وأرسلت رسالتها، هي تلميذتي، على الأقل يدعوني القسم للمناقشة. - أنا آسف يا نصر، الوضع غم في الجامعة وفي القسم، أنت لازم تكون مبسوط جدا إنك رحلت من الهم دا.
قارنت بين قسم اللغة العربية الذي أنتمي إليه وقسم اللغة الفرنسية الذي تنتمي إليه «ابتهال»؛ فهي تسافر إلى مصر كل شهرين منذ انتقالنا إلى هولندا لرؤية والدتها، وتشارك في مناقشة رسائل. وها هي جامعة القاهرة لا تريدني، وربما لن تطأ قدماي أرضها محاضرا أو أستاذا. فإلى متى أظل منتظرا دعوة جامعة القاهرة التي لن تأتي. وها هي جامعة «لايدن» هي الأخرى تتردد في إعطائي درجة أستاذ دائم منذ مساندتي المعلنة للانتفاضة الفلسطينية ودعمي للمقاومة وخطابي النقدي للسيطرة الغربية. إني أعيش في حالة من الانتظار التي تقتلني، لم أمر طوال حياتي بهذا الإحساس؛ ففي أقسى الظروف كان دائما قراري في يدي، الآن أنا في حالة انتظار؛ فمصيري يخرج من يدي ، لا أستطيع أن أقرر. المستقبل غامض. كنا في تركيا، حاولت «ابتهال» أن تخفف عني، وكنت في حالة من الضيق الغاضب، لكن تسامحها وحنانها كان أغلب من ضيقي، فقالت: إنت غاضب لأن «لايدن» لم تقرر بعد، لكنك أستاذ معروف في كل العالم، شوفت البشر والامتنان على وجوه من استمعوا إليك في الندوة العلمية، افتح عنيك. إنت بدأت تحول نفسك إلى ضحية، إحنا في أحسن حال، صحتك عال، ووزنك نزل، وتستطيع أن تعطي من أي مكان أنت فيه. إنت ليه غضبان؟
أتانا خطاب من مؤسسة «أنا ألينور روزفلت» الأمريكية تختارني هذا العام ألفين واثنين للحصول على جائزتها السنوية في حرية العبادة، بالإضافة إلى آخرين، منهم زعيم جنوب أفريقيا الكبير نيلسون مانديلا. فداهمتني الوساوس؛ مؤسسة أمريكية، ولماذا أنا؟ ولماذا هذا العام؟ كان رأي «ابتهال» أنها جائزة محترمة، وتأثيرها خرج عن حدود أمريكا، لكن ماذا يقول عني الناس في العالمين العربي والإسلامي. اتصلت بصديقي العزيز الشاعر «زين العابدين فؤاد» في القاهرة، وأعرف أنه سيصدقني القول، أسأله عن رأيه. فقال إنه سوف يحضر من القاهرة ليكون معي في تسلم الجائزة إن أردت. فقررت قبول الجائزة، وإن كان الأمريكيون أرادوا أن يرسلوا رسالة من خلالي فسوف أستخدم هذه المناسبة لإرسال رسالة أيضا. احتفال هذا العام سيكون في هولندا حسب التقليد لخلفية عائلة الرئيس الأمريكي روزفلت وأصوله الهولندية، وتعطى الجائزة في السنوات زوجية العدد بهولندا، وفي الأعداد الفردية من السنين في أمريكا.
قبل الحفل بيومين، تقابلت مع الرئيس المساعد للمؤسسة على عشاء، وسألته كيف وصلوا إلى اسمي. أخبرني أن المؤسسة أرادت أن تبحث عن شخص مسلم يعتقد في المبادئ الأساسية التي عاش من أجلها «روزفلت»، وتركنا الأمر للناس في جريدة «زيلاند» الهولندية ورئيس تحريرها، كان في دورة تعليمية بجامعة «لايدن» عام خمسة وتسعين، وهو الذي اقترح اسمك، وأرسلنا إلى جامعة «لايدن» فرشحك رئيس قسم الدراسات الآسيوية بالجامعة.
في يوم الاحتفال، الثامن من يونيو، كان حضور ملكة هولندا وزوجها، و«إليزابيث ومارجريت»، من عائلة الرئيس «روزفلت»، وأعضاء اللجنة . وارتديت أنا و«ابتهال» و«زين العابدين» وزوجته «جوسلين» الكوفية الفلسطينية التي طلبت أن يأتوا بها معهم من القاهرة، وألقيت كلمة قصيرة شكرت فيها المؤسسة، وأثنيت على جهاد الفائز معي الرئيس «مانديلا»، وأشرت إلى الرسالة المزدوجة التي تعنيها هذه الجائزة حينما تعطى لأول مسلم؛ ففيها رسالة للعالم الإسلامي وللعالم الغربي أيضا.
عادت «ابتهال» إلى القاهرة للتدريس بالجامعة في سبتمبر، فقبلت دعوة مؤسسة برلين للدراسات المتقدمة لمدة ستة أشهر للعمل على التأويلية الإسلامية واليهودية. وأصبحت وحيدا، تتخاطفني الهواجس، أكلم «ابتهال» تليفونيا ثلاث مرات يوميا. وفي العاشر من سبتمبر اتصلت بي في الصباح، وقالت: أنا عندي خبر مش كويس. صمتت قليلا، ثم قالت: «السيد ابن عمك تعيش إنت، توفي صباح أمس.» أنهيت المكالمة معها، وخرجت في طريقي للجامعة. في منتصف الليل اتصلت بها وقلت لها: أنا تعبان. ردت بلهفة: أجيلك لايدن فورا. - لا. بس أنا مفتقدك جدا. - نصر، السبب مش فقدانك لي، دا شيء أكبر من كدا، إنت حاسس باليتم للمرة الثانية بفقد السيد ابن عمك وأبوك الثاني.
ازدادت داخلي الرغبة في العودة؛ فلو كنت في البلاد الآن ربما كنت في عون السيد، سوف آخذ زمام حياتي مرة أخرى، لن أنتظر جامعة القاهرة تدعوني للانضمام الأكاديمي لها، ولن أنتظر «لايدن» تعطيني «أستاذ دائم»، وأنا مقبل على الستين في الثامن عشر من نوفمبر.
سجلنا «المؤسسة العربية للتحديث الفكري» في سويسرا، أنا و«محمد أركون» و«جورج طرابيشي» ومفكرون من العالم العربي ورجال أعمال، كمحاولة لتشكيل كيان يسهم في عملية التحديث الفكري في العالم العربي، ويسعى إلى جذب تبرعات من العرب، من أجل هذا الهدف، بعد ما حدث من عنف العام الماضي.
Page inconnue