ضجت القاعة بتصفيق الحضور، وبدأ د. «شكري عياد» المناقشة، وصوته سعيد متذكرا ما حدث معه ومع زميله «محمد أحمد خلف الله» في أربعينيات القرن العشرين وأستاذهما «أمين الخولي»، حين اضطر «شكري عياد» نفسه إلى تحويل دراساته من الدراسات الإسلامية إلى الدراسات البلاغية - بنظارته السميكة، وضحكته العالية، وروح الدعابة التي لا تفارقه - قال: أخطاء الرسالة المطبعية قليلة، وهذه قائمة بها، لكن أنت في التمهيد هاجمت الباحثين السابقين عليك في فكر «ابن عربي» الذين حاولوا قياس فكره بمقاييس الفلسفة الغربية. ما رأيك في أنك فعلت نفس الشيء؟ فأنت حاولت جذبه إلى فلسفة الهرمنيوطيقا، لا أدري لماذا.
فقلت: معضلة القراءة هي مجال اهتمام التأويلية، حاولت أن أرى الطريقة التي يتعامل بها «ابن عربي» مع النص القرآني، فحاولت دراسة تأثير النص القرآني على مفاهيم «ابن عربي» مثل مفهوم البرزخ مثلا. - أنت كتبت دراسة جميلة عن الهرمنيوطيقا منذ أشهر، وأنا مدين لابننا «جابر عصفور» أن أعارني بعض كتبكم الحديثة التي تختالون بها على الناس - ضجت القاعة بالضحك - في المجلات والندوات، وقلت إن فيها شيئا جليلا، خصوصا ما يدخل في اجتماعية المعرفة، وأنا هنا أنطلق من منطلق اجتماعي معرفي معين، وهذا لم يتم عندك «هرمنيوطيقيا» لكي تعالج تفسير «ابن عربي» لهذا النص الديني. أنت في حاجة لهرمنيوطيقية الكتاب المقدس وليس لهرمنيوطيقا عامة؛ لأن العامة ستدعوك إلى دراسة الكتاب في سياق فكري واجتماعي معين. ولو أنك لم تلفظ المنهج التاريخي بالجملة لكان أمكنك ربط «ابن عربي» بعصره وثقافة عصره. - أعترف أن دراسة «ابن عربي» تحتاج إلى دارسين. - يجب أن تعترف أيضا أن هذا التركيز على فلسفة «ابن عربي» كان أولى أن تنفقه على مسألة التأويل، لكن كتاباته الغزيرة أوقعتك في بحاره؛ فمحور البحث هو منهجه في التأويل، والباقي يكون مكانه في الحاشية. أنا أحاول أن أستعيدك إلى قسم اللغة العربية، فلا أعرف ماذا سيفعلون بك في قسم الفلسفة؛ فأنت معزز مكرم في قسم اللغة العربية. وعندي نقطتان قد ينفعانك في دراساتك في المستقبل؛ لأن العمر لم يعد يمهلني لدراستيهما؛ أولا: الحيرة؛ حيرة «ابن عربي» أمام النص. الحيرة فكرة ومنهجية عند «ابن عربي». النقطة الثانية: كلامه عن الحروف ودلالات الحروف.
ثم أثنى علي وعلى الدراسة. وبدأ د. أبو الوفا مناقشته، فتحدث بدماثة خلقه وصوته وصوفيته الجمة، وشاربه الخفيف المهندم. ولم يكن يرتدي بدلة كاملة ورابطة عنق مثل د. «شكري»، ود. «مكي». فقال: أتعبتني هذه الرسالة؛ لأنها من الرسائل القليلة التي بذل فيها جهد جدير بالتقدير. الباحث جريء؛ فنحن المتخصصين في التصوف نجد صعوبة في فهم كلام «ابن عربي»، فما بالكم بباحث اقتحم الميدان؟! أعجبت بشخصية الباحث وبجرأته في استخراج النصوص وتحليلها. الموضوع جديد فيما كتبه الباحث عن القرآن والتأويل وعن الألفاظ. لم يتعرض أحد من الباحثين لهذا الجانب؛ ف «ابن عربي» عالم في اللغة، وقد استفدت شخصيا من هذا الفصل الأخير. أنا عندي ملاحظات عامة. أتفق مع أستاذك «شكري عياد» أنك أطلت في الأبواب الأولى، كنت ممكن تضع الجزء الأخير في الأول والباقي تشير إليه في الهامش، أنت اعتمدت على المصادر الأصلية ونتاج «ابن عربي» غزير، وأنت أحضرت نصوصه بدقة شديدة؛ مما جعل صفحات الرسالة تكبر، لكن أنا أعتب عليك موقفك من دكتور أبو العلا عفيفي في التمهيد. أبو العلا عفيفي دا، مصر لم تنجب مثله، وكان ممكن ينفعك جدا في ربط «ابن عربي» بثقافة عصره. أنت وقفت مع «ابن عربي»، ومجلس الشعب حاكم «ابن عربي» أخيرا، ومن حقك تنقده، وإلا حاكمك مجلس الشعب أنت الآخر. مثلا في تعبير تجديد الشريعة، من فضلك بلاش تجديد الشريعة. - العبارة تتحدث عن تجديد الفهم. - وانت أغفلت نقد «ابن تيمية» ل «ابن عربي»، وله نقد كبير، وأنا أتفق مع الدكتور «شكري»، كنا نحتاج تفاصيل أكثر من ذلك في نماذج التأويل عند «ابن عربي»، وأنا أعبر عن إعجابي واكتسابنا اليوم باحثا جديدا ومهما في أدب التصوف.
ثم تحدث الدكتور «مكي» وقال: الفضل في هذا العمل يرجع إلى هذا الغائب الحاضر العظيم «عبد العزيز الأهواني»، الذي أشرف على رسائل تربط بين الفلسفة والتصوف. الباحث استهواه «ابن عربي»، فأصبح عربيا - نسبة ل «ابن عربي» - وقد أشفقت على «نصر» من غزارة إنتاج «ابن عربي»، لكن «نصر» لم يفقد الرؤية العامة ولم يته في الغابة.
ثم خلت اللجنة لمناقشتها السرية، وعادت وقرأ الدكتور «مكي» القرار: اجتمعت اللجنة المكونة من الأستاذ الدكتور «محمود على مكي» مشرفا، والأستاذ الدكتور «شكري عياد» مناقشا، والأستاذ الدكتور «أبي الوفا التفتازاني» مناقشا، في تمام الساعة التاسعة مساء الثلاثين من يوليو، التاسع والعشرين من شهر رمضان 1981م، وبعد المناقشة العلنية، قررت اللجنة منح الطالب «نصر حامد رزق» درجة الدكتوراه في الآداب من قسم اللغة العربية بمرتبة الشرف الأولى. انفجرت روح جميلة على المكان من فرحة في عيني أمي وأسرتي، وصعدت على المنصة أسلم على أعضاء اللجنة، وأتى المصور الذي أخذ لنا صورة معا، وقال: «الكاميرا تأخذ بعض الوقت حتى تشحن لأخذ الصورة التالية، ممكن تكملوا مناقشة الرسالة.» ابتسمنا حتى التقط الصورة التالية لنا.
7
على الرغم من حالة الاختناق السياسي التي تمر بها البلاد، فإن الشعور بلقاء الطلاب الجدد، والدخول إلى مدرج ثمانية عشر، أشعرني بسعادة غامرة. ومن اليوم الأول أوضح للطلبة أن المحاضرة طريق ذو اتجاهين، وأني أتعلم من نقاشهم بقدر تعلمهم مني، إن لم يكن أكثر، ودون نقاشهم وأسئلتهم فالمحاضرة لن تحقق هدفها. وأتذكر شعوري مع الدكتور «حسن حنفي» وأنا طالب مثلهم. وبدأت في ترجمة بعض النصوص المهمة إلى اللغة العربية من الإنجليزية، فترجمت دراسة «هيرش» عن «اتجاهات في التقييم الأدبي»، للعدد الثاني من مجلة ألف للبلاغة المقارنة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ ودراسة «أندرية جبسون» «ملاحظات عن القصة والفكاهة»، للعدد الثاني من المجلد الثاني من مجلة «فصول». وبدأت أعد لبحث عن مفهوم المجاز (من تشبيه وكناية واستعارة) للكشف عن جذوره المعرفية في علم الكلام أو علم أصول الدين عامة، وربطه بالتصورات الدينية عن الله والعالم والإنسان، وبين تصور طبيعة اللغة وعلاقاتها بالعالم، وبين هذا كله وعلم البلاغة العربية، حتى أتى قرار رئيس الجمهورية رقم 490 لسنة 1981م في يوم ثمانية سبتمبر، وقد رفض عميد الكلية د. «حسين نصار» التوقيع على الخطاب الموجه من رئيس الجامعة «حسن حمدي» باستلام الخطاب، بنقل بعض أعضاء هيئة التدريس والمدرسين المساعدين والمعيدين إلى جهات خارج الجامعة: «أبعث إلى سيادتكم بصورة من قرار السيد الأستاذ الدكتور وزير التعليم والبحث العلمي بتحديد الجهات التي ألحقوا بها تنفيذا للقرار الجمهوري سالف الذكر، رجاء التفضل بالإحاطة والعمل بمقتضاه.» فنقل د. «حسن حنفي» إلى وزارة الشئون الاجتماعية، ود. «عبد المنعم تليمة» إلى وزارة التأمينات الاجتماعية، ود. «جابر عصفور» إلى وزارة التأمينات، د. «عبد المحسن طه بدر» إلى وزارة التعمير، «سيد البحراوي» إلى أمانة الحكم المحلي، ود. «نصر حامد أبو زيد» إلى وزارة الشئون الاجتماعية، و«صبري المتولي» إلى أمانة الحكم المحلي.
ثار جدل بين المنقولين: ماذا نفعل؟ فاقترح البعض رفض تنفيذ النقل، فقلت لهم: «كموظف قديم وخبرة في دواوين الحكومة، بعدم تنفيذك النقل تعطي للدولة الفرصة على صينية من ذهب بفصلك من العمل. لا بد أن ننفذ النقل، وبعد ذلك نعمل ما تريد. وأنا ذاهب لتنفيذ النقل.» أكثر من ستين أستاذا صدرت قرارات بنقلهم خارج الجامعة بدعوى إسهامهم في أحداث الفتنة الطائفية. وكان التركيز على كل من له رأي وموقف سياسي في الجامعة من الأحداث الجارية، وأكثر من ثلاثة آلاف من زعماء المعارضة السياسية من كل التيارات قد تم اعتقالهم. بعد يومين ذهبت إلى ديوان عام وزارة الشئون الاجتماعية، إلى شئون الأفراد، لكي يسلمني عملي، فجاء بعد قليل وقال: سيادة الوزيرة آمال عثمان عايزاك تشرف في مكتبها نظرت إلى الموظف وقلت: «لكن أنا مش عايز، سلمني العمل وبعد ما تسلمني العمل أكون موظف تحت رياستها، بعد ذلك تأخذني لها زي ما تحب، لكن أنا مش موظف تحت رياستها.» ابتهج وجه الموظف، وكأنه شعر بنشوة أن يكون هذا تصور موظف تجاه رئيسه، بل الوزير المسئول. أخذ الأوراق، وبدأ يقرأ فيها وقال: ده مكتوب هنا إنك معاك دبلوم صنايع سنة ستين، ودكتوراه. دبلوم وتذاكر وتنجح وتبقى دكتور ويفصلوا واحد مكافح زيك؟ دي بلد خربانة. - سيبك أنت من الكلام ده، أنا حصلت على الدكتوراه لكن لم تأت الدرجة الوظيفية بعد، هتسوي حالتي على درجة مدرس مساعد بالماجستير، ولا درجة مدرس بالدكتوراه. - لا ماجستير ولا دكتوراه ، أنت أحسن لك تدخل بدبلوم الصنايع، دبلوم سنة ستين، تبقى درجة وكيل وزارة، لا مؤاخذة مع الاحترام للدكتوراه.
سلمني العمل وأعطاني إقرارا، فقلت: «طيب فين مكان عملي؟ فين مكتبي؟» - بقولك إيه، ما توجعشي قلبنا، أنت عارف إنهم جابوك هنا، شوية وتمر الهوجة وترجع المياه لمجاريها، وبعدين يا عم هم اللي فصلوا «طه حسين» كانوا حد افتكرهم، تيجي تاخذ مرتبك وتروح تألفلك كتاب وريح نفسك، وكل ما تيجي الوزارة عدي علي نشرب شاي.
حاولت أن أقنع أمي أن انتقالي إلى وزارة الشؤن نوع من الترقية، ولكي أثبت لها ذلك كنت أعطيها مبلغا كل شهر، فزدته، على الرغم من أن راتبي نزل إلى النصف، وزاد حمل الأعباء. «جابر عصفور» سعى للسفر إلى السويد، وساعده صديقه «محمد عطية عامر» رئيس قسم الدراسات العربية في جامعة استوكهولم.
Page inconnue