ما إن قلت «معلم» حتى بدأ يضحك بلهجة ساخرة يوجه حديثه إليهم: «معلم، معلم. وماذا تعلم يا معلم؟» قلت بهدوء: «أدرس اللغة العربية.» قال زعيمهم: «طيب يا معلم ادعونا لشراب في بيتك.» - ولم لا؟ لكن الوقت متأخر، وأنا عندي دروس في الصباح، لكن إذا أحببتم تعالوا نشرب شيئا معا، لكن لازم أذهب للسرير في أقرب وقت.
وجدت نوعا من الاستغراب على وجوههم. ولم أصدق نفسي أني أدعوهم إلى مسكني، لكني كنت مرعوبا أن أقول لهم «لا». أخذنا المترو، وطوال الرحلة وأنا أتصورهم الستة وهم يدخلون مسكني ويقتلونني. وصلنا إلى البيت، دخلنا، سألني أحدهم: «عندك إيه للشرب؟ أنا عايز بيرة.» - في الواقع ليس عندي كحوليات؛ لأني لا أشرب ... وقلت بصوت خفيض متحسسا: لكن ممكن نشرب شاي، وعندي عصير برتقال، أو لبن.
قال أحدهم متسائلا: «ليه لا تشرب الكحوليات؟» وقال آخر بسرعة: «هو انت هوفا وتنس؟» من «شهود جهوفا» - بتعطيش الجيم - حاولت أن أشرح لهم أن شرب الكحوليات ضد المعتقد والتقاليد الإسلامية، وفي النهاية قدمت لهم ستة مشروبات مما عندي. وكانوا في أدب جم داخل الشقة. سألوني بعض الأسئلة عما أدرس، وشكروني على الصحبة وانصرفوا.
وجدت بالمكتبة كتابات أخرى للكاتب الياباني «توشيهيكو إيزوتسو» (1331ه/1914م-1412ه/1993م) غير الدراسة التي قرأتها له وأنا أعد رسالة الماجستير،
Revelation as a Linguistic Concept in Islam
عن مفهوم الوحي من منظور لغوي في الإسلام، فوجدت له دراسات أخرى، وكلها عن القرآن، وأرسلت إلى زميل ياباني كان معي في جامعة القاهرة يدرس اللغة العربية، وطلبت منه أن يصور لي بقية كتبه في اليابان، والتي لم أجدها بمكتبة جامعة «بنسلفانيا». والدور الذي قام به «إيزوتسو» بتطبيق منهج التحليل اللغوي على القرآن، ووجدت له قدرة تحليلية جميلة، وسمعت عن ترجمته للقرآن إلى اللغة اليابانية. وعلمت أنه يدرس في كندا، فقررت أن أقوم بجولة في أنحاء الولايات المتحدة، أزور فيها جامعات ومكتبات أخرى للبحث عن مزيد من الكتب والدراسات عن التأويلية وعن الدراسات القرآنية وعلوم اللغة والنقد والفلسفة. كنت آخذ تذاكر أتوبيس أو قطار أو طائرة ذهابا وعودة، فزرت جامعة «كاليفورنيا » و«بيركلي» وجامعة «برنستون»، وذهبت إلى مكتبات في «نيفادا» و«أروجون»، وأنفقت الكثير من مالي على المواصلات، وعلى تصوير كتب من هذه المكتبات والجامعات، وذهبت لزيارة أستاذ عراقي بجامعة «هارفارد»، د. «محسن مهدي»، أستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة، وله كتابات عن «ابن خلدون والفارابي»، وله تحقيق ل «ألف ليلة وليلة». وتحدثنا عن موضوع دراستي للدكتوراه ودراسات الهرمنيوطيقا التي أقوم بها، وأعجب كثيرا بالأفكار التي طرحتها عليه، فعرض علي منحة للدراسة ب «هارفارد» واستكمال الدكتوراه بها، لكن عقلي متعلق بطلابي الجدد بمدرج ثمانية عشر. والحياة في أمريكا لم تجذبني، على الرغم من الزخم الفكري والمعرفي الذي تواصلت معه. ذهبت إلى كندا لمحاولة اللقاء بالأستاذ الياباني «توشيهيكو إيزوتسو» الذي انبهرت بدراسته عن القرآن، لكن لسوء حظي كان في رحلة إلى إيران في ذلك الوقت. عدت بعد شهرين من التجوال والترحال داخل جوانب الولايات المتحدة، فلقيني الأستاذ «توماس نيف»، وأمسك بذراعي وقال: «اختفيت فين يا نصر؟!» - عملت رحلة في أرجاء أمريكا. - هل زرت جامعات؟ - بالطبع، ومكتبات أيضا، وأتيت بأحمال من الكتب التي صورتها وجمعتها. - طيب، سأدفع لك كل تكاليف الرحلة، أحضر لي وصولات التذاكر والفواتير؛ لأن الذي كنت تفعله هو جزء من منحتك الدراسية، ولا أعده مضيعة للوقت.
شعرت بعاطفة ناحية سكرتيرة تعمل في الجامعة اسمها «جانيت» من أصول يونانية، شديدة الفخر بأصولها. كنا نستمتع بالحديث إلى بعضنا بعضا، في الصباح الباكر، في أنحاء الجامعة، حتى إني عرضت عليها الزواج، لكنها قالت: «نصر أنا عارفة مدى ارتباطك ببلادك، ودراستك وأبحاثك، وأنا لا أقدر أذهب معك إلى مصر، موضوع الارتباط دا لا ينفع ولا بد أن نحكم العقل والمنطق، ولو نشأت علاقة بيننا سنتعذب نحن الاثنين.»
4
كنت أستعد للخروج إلى الجامعة، حينما فتحت خطاب صديق لي من مصر يعزيني في وفاة أختي الكبرى «بدرية أم علاء» في الأربعين (1940-1980م)، لم أصدق السطور. لقد كنت أتحدث إليهم في قحافة منذ فترة بسيطة وسألت عنها، وقال لي أبناؤها إنها بالسوق. جلست على أقرب مقعد في ساحة الجامعة ، ولا أعرف ماذا أفعل. كنت مشدوها، وجرت في ذهني سنواتنا معا، وحبها للمدرسة التي حرمها منها أبونا، وزواجها الأول، حتى زواجها من ابن عمنا «السيد أبو زيد»، وأبناؤها. اقترب مني أستاذ مصري من جامعة عين شمس، وما إن رأيته حتى انخرطت في البكاء. ذهبت إلى مدير المركز «توم نيف» وحكيت له ما حدث. هدأ من نفسي وقال: «يا نصر ، والدتك أخفت عليك لحمايتك، وهي أقوى منك، ورجوعك سيقلب عليهم الألم. هذا هو التليفون اتصل بهم، واعرف ما حصل. ولو أردت أعطيك التذكرة لتسافر فافعل، لكن سفرك هيعمل إيه؟ زي ما أنت قلت إن الوفاة حدثت من مدة.» اتصلت بأخي في قحافة، وسألته عن أختنا، قال: إنها في السوق. فقلت بحدة: لسه هتكدبوا علي؟! فقال بصوت متأثر: نصر، أمك لم ترد أن تؤلمك لأنها عارفة تعلقك بأم علاء، ولم يحدث شيء، لم تمرض، كانوا بيجهزوا حاجات العيد، وفجأة السر الإلهي طلع، سكتة قلبية، وهي في عز شبابها. الله يكون في عون أولادها وزوجها. وأمك حلفتنا كلنا إن ما أحد يقول لك، وبعدين هتيجي تعمل إيه؟ هتقلب عليها المواجع، أنت كمل دراستك ومذاكرتك، وتعالى، وأنت في غربة، وكنا مش عايزين نزعلك عليها، وأمك منذ الخبر وهي بتبكي طول الوقت.
تبقى لي في المنحة خمسة أشهر، كنت أود أن تمر بسرعة. لم أعد أستطيع ولا أطيق الوجود هنا، وسأضع همي في استكمال العمل في رسالتي للدكتوراه. اتصلت ب «جابر عصفور» أطمئن منه على الأحوال في القسم، فأخبرني بالمجلة الجديدة التي ستصدرها الهيئة العامة للكتاب لتكون مجلة للنقد الأدبي، والتي يدعمها رئيس الهيئة الشاعر «صلاح عبد الصبور» (1931-1981م)، وسيرأس تحريرها د. «عز الدين إسماعيل»، و«جابر عصفور ود. صلاح فضل» نائباه. وطلب مني أن أسهم في العدد الأول الذي سيصدر بنهاية العام. كنت قد بدأت في قراءة كتاب «أدونيس» (1930م) «الثابت والمتحول»، فكتبت مقالي: «الثابت والمتحول في رؤيا أدونيس للتراث.» للعدد الأول من مجلة «فصول» الفصلية، عدد أكتوبر، سنة ثمانين. منذ أن ألقى «طه حسين» حجرا في الشعر الجاهلي، وبدأت النظرة الديناميكية الحية للتراث. ومع هزيمة يونيو (1385ه/1967م) ازداد الاهتمام بالعودة للتراث. والعودة للماضي تبدأ من هموم الواقع؛ فهناك علاقة جدلية بين الباحث وواقعه وبين التراث. لا شك أن للتراث وجودا، على المستوى الأنطولوجي أو الوجودي، كان منفصلا في الماضي، لكن على المستوى المعرفي الإبستمولوجي هناك تواصل. التراث موجود في حياتنا بأشكال متعددة، والعلاقة بين الماضي والحاضر وبين الباحث والتراث علاقة جدلية. ولا توجد قراءة بريئة؛ بمعنى أنها لا تبدأ من هموم وأسئلة يطرحها الواقع على الباحث. وعلى الباحث الواعي أن يوائم بدقة بين رؤيته وحقائق التراث. ووعيه بطبيعة هذه العلاقة هي العاصم من الشطح أو الوثب بعيدا. من هذا المنطلق قرأت كتاب «أدونيس». وإشكالية التراث عنده رد فعل لتوظيف الثقافة السائدة للتراث؛ خدمة لأهدافها. وبما أنه مفكر «طليعي» فقد فرق بين الثقافة السائدة والثقافة الطليعية التي يمثلها، وهذا الموقف من الواقع شكل نظرته للتراث. وعلى المستوى التطبيقي نفر من الماضي نفوره من الثقافة السائدة. دراسة التراث في هذه الحالة لا تكون علاقة إخصاب، بل علاقة هدم وليس علاقة تجديد. وثنائية «الإبداع والاتباع» ناتجة من كونه شاعرا، فينظر إلى التراث على أنه مادة محايدة يستخدمها، فللمبدع أولوية على التراث؛ فتصورات «أدونيس» للعلاقة بواقعه وبالتراث أوقعته في الانتقائية والتحيز غير المنضبط منهجيا. إن إنجاز هذه الدراسة الحقيقي هو إدراك العلاقة بين عناصر التراث ومستوياته، وإن كانت قد وحدت بطريقة ميكانيكية أحيانا بين هذه المستويات.
Page inconnue