12
داخل قاعة المناقشة، جلست خلف ترابيزة صغيرة عليها كوب من الماء ومعي الرسالة وأوراق لكتابة الملاحظات وخلفي باقة كبيرة من الورد، أرتدي بدلة جديدة ورابطة عنق، عليها الروب الأسود حسب التقاليد الجامعية. وعلى المنصة لجنة المناقشة؛ أستاذي «عبد العزيز الأهواني»، وبجواره الأستاذة الدكتورة «سهير القلماوي» بشعرها القصير، وعلى جانبه الآخر الدكتور «عفت الشرقاوي». حضر المناقشة جمع غفير من الأهل والأصدقاء وطلبة جامعة القاهرة. بدأ الدكتور «عبد العزيز الأهواني» الحديث بصوته الرخيم الآتي من أعماق بعيدة، فطلب مني تقديم ملخص للبحث. عرضت تلخيصا للدراسة، فالتمهيد؛ درست فيه نشأة الفرق الدينية الإسلامية، ومنها المعتزلة، وفصلا عن المعرفة والدلالة اللغوية. عرضت فيه لنظرية المعرفة ونظرية اللغة عند المعتزلة، وفصلا ثانيا عن نشأة مفهوم المجاز وتطوره عند المعتزلة، وفصلا أخيرا عن المجاز والتأويل؛ أخذت فيه قضيتي توحيد الله ورؤيته وقضية خلق الأفعال والعدل كنموذج للتأويل عند المعتزلة.
مسألة المحكم والمتشابه في القرآن. اتفقت كل الفرق على وجود محكم واضح، ومتشابه غامض يحتاج إلى توضيح؛ اعتمادا على الآية الثالثة من سورة «آل عمران»، لكن الفرق اختلفت فيما بينها حول ما الواضح وما الغامض، واتخذ المعتزلة هذه المسألة وسيلة شرعية لتأويل الآيات التي لا تتفق مع مبادئهم الفكرية من التوحيد والعدل، واستخدموا المجاز كوسيلة لإخراج دلالة نص القرآن من المعنى الظاهر للآيات إلى معنى مجازي، وفي حالة عجزهم عن تأويله استنادا إلى تركيبه اللغوي يلجئون إلى الاستناد إلى الدليل العقلي.
المعتزلة ينفون تماما مسألة رؤية الله؛ لأن الرؤية تعني أنه سبحانه متحيز بالمكان، واستندوا إلى آيات مثل
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، واعتبروها محكمة، وأولوا كل الآيات التي تختلف مع ذلك، ونفوا مشابهة الله للبشر، وأكدوا وحدانيته المطلقة وتفرده الكامل. وفي قضية خلق الأفعال، وهي أساس مبدأ العدل، نفوا عن الله فعل القبيح أو إرادة فعله، وأكدوا قيام الفعل الإنساني على الاختيار. وكان الأشاعرة قد ذهبوا إلى إطلاق القدرة الإلهية لتشمل كل المرادات حتى كفر الكافر وكذب الكاذب؛ فإن المعتزلة ميزوا بين ما يريده الله من فعل ذاته وبين ما يريده من فعل غيره، وذهبوا إلى أن إرادة الله للفعل الإنساني إنما هي إرادة على سبيل الاختيار لا الإلجاء. والمعتزلة حاولوا مخلصين رفع التناقض بين العقل والشرع من جانب وبين النصوص المتعارضة ظاهريا للقرآن من جانب آخر. وكانت جهودهم في مجالات المعرفة واللغة والمجاز - لخدمة هذه المهمة - إنجازا له آثاره العديدة على هذه المجالات. ولعل دراستي أن تكون تمهيدا لرصد هذه التأثيرات التي تركها المعتزلة في غيرهم من أعلام الثقافة العربية وعلومها، كل ما يرجوه الباحث أن يكون قد وفق في كشف جانب مهم من جوانب تراثنا الديني الإسلامي في مجال البحث النقدي والبلاغي.
بدأ المناقشة د. «عفت الشرقاوي» الذي مر ثلاث مرات؛ مر عبر الرسالة مدققا في الكتابة والأسلوب والنحو بالتفصيل، وفي النهاية أثنى على البحث وعلى جهد الباحث، لكني لم أستفد منه في مناقشة المنهج أو القضايا الفكرية المثارة بالبحث. ود. «سهير القلماوي» أثنت أيضا على البحث وعدم التهيب من موضوع البحث، والأمانة في عرض النصوص، وحرصي الدائم على ذكر رأي وليس مجرد جمع، بل هناك أصالة في النظر للأمور. ونظرت لي بحيويتها المعهودة وصوتها الواثق وقالت: لكننا هنا لسنا في مجال ذكر المزايا، الرسالة اسمها قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، أين قضايا المجاز في الرسالة؟ فقلت لها: لقد حاولت أن أطرح فلسفة المعتزلة. - هذه قضايا فلسفية وليست قضايا بلاغية، أين مثلا استعمالات المجاز؟ هل كانت للمعتزلة طريقة معينة في النظر للمجاز، كمجاز الأسماء والأفعال؟ - «القاضي عبد الجبار» المجاز عنده مجرد سلاح للتأويل. - أنت رصدت ما قاله المعتزلة، وليس طريقة المعتزلة. كنت أطمع في فصل يشخص كيف استعمل هذا السلاح. أنت قسمت الرسالة من الناحية الفلسفية وليست البلاغية، عندك ثلاثة مراجع أجنبية فقط، وليس منها كتاب حديث متخصص في المجاز. ما استعمالاتهم للمجاز عندما يردون شيئا من المتشابه إلى المحكم، أو استعمالهم للمجاز عندما يردون على شيء يمس الثابت من العقيدة؟ وأنت أخذت وقتا طويلا في شرح نشأة الفرق والقضايا الفلسفية، وكان يمكن أن تختصرها إلى أقل من ذلك بكثير. يعني مثلا في مسألة مواضعة اللغة، هل كانت هناك مواضعة بين الملائكة والرسل؟ وبعدين أليس غريبا ألا يلتفت إلى السنة النبوية في تأويلات الفلاسفة فيما ذكرته السنة عن ماهية الله في التوحيد والعدل، فهل لرفض المعتزلة للحديث سبب؟ ومسألة المجاز في الأعلام، واستعمالهم السياق والمجاز بالسياق، وهذا مهم جدا. إحنا بدأنا ندخل في صلب الرسالة في صفحة 157. وكذلك مسألة مصطلحات الفقه التي دخلت البلاغة مثل الخصوص والعموم، وأيضا اشتغال المعتزلة بالرد على تحديات أهل الديانات الأخرى، أليس له دور في استخدامهم للمجاز؟ - أفادهم في الاستدلال وأخذ العقل كمعيار. - وكتاب الشارح «للمغني، عبد الجبار»، هل هناك إضافات للشارح؟ وما هي؟ - محقق الكتاب دخل في نفس الإشكال؛ لأن الشارح للكتاب شيعي، والمؤلف معتزلي.
شربت بعض الماء حينما انتهت الدكتورة سهير من مناقشتها، وأتى الدور على أستاذي «عبد العزيز الأهواني» الذي قال: كوني مشرفا لا يمنعني من طرح بعض النقاط على الباحث ليفكر فيها. أعتقد أن نشأة الاعتزال التي ذكرها الباحث على أنها رد فعل سياسي للنظام الأموي ولمواجهة الظلم كعامل أكبر يجب أن يفكر فيها ثانيا؛ لأن المعتزلة كانوا أصحاب سلطان في زمن المأمون، وجرت على أيديهم محنة خلق القرآن، وكانوا أقرب للسلطة. وظل المعتزلة طوال الوقت نخبة في المجتمعات الإسلامية. وقضية انتشار الإسلام ودخول غير العرب في الإسلام لم تكن أقل أهمية من تحدي السياسة في نشأة الفكر الاعتزالي. ربما لنشاط الباحث السياسي، فحبذ دور السياسة. إذا كان هذا هو موقفهم في السياسة في البداية كموقف من الواقع، لماذا كان خطابهم بهذا التجريد، ومنصبا على ما سيفعله الله في العالم الآخر؟ خطابهم من البداية للخاصة وليس للعامة؛ فلم يتحدثوا عن البديل للحاكم الجائر. أنا أوافقك في أن هناك صلة بين المعتزلة والسياسة، ولكنها ليست الصلة الأولى في النشأة. بعد انتهاء الدكتور «الأهواني» من مناقشته دخلت اللجنة للتداول.
شربت كوب الماء. القاعة حارة جدا. أفكر في دراسة جدل المعتزلة مع أهل الديانات الأخرى وخصوصا في دمشق التي كانت معقلا للفكر المسيحي. عادت لجنة المناقشة، وقرأ الدكتور «عبد العزيز» قرارها بمنحي درجة الماجستير بتقدير «ممتاز». رأيت الفرحة في عيون أمي، وأختي «بدرية» بصحتها العليلة وهي في السادسة والثلاثين، بصحبة أبينا الروحي زوجها وابن عمي «السيد أبو زيد»، وأخي «محمد» الذي قرر العودة إلى قحافة والعمل في شركة طنطا للغزل، و«كريمة» موظفة الجامعة، و«أسامة» الذي أنهى الدراسة بالمعهد الفني العالي، و«آيات» التحقت بالجامعة لدراسة اللغة اليابانية.
13
حصلت على منحة من مؤسسة «فورد» للدراسة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكانت الأجواء في مصر تزداد احتقانا يوما بعد يوم، مع قرارات الانفتاح الاقتصادي، واتجاه الحكومة رفع أسعار السلع وإلغاء الدعم امتثالا لأوامر البنك الدولي، وإرهاصات السادات في عمل اتفاق منفرد مع إسرائيل، والحركة داخل الجامعة وبالشارع تزداد التهابا يوما بعد يوم. وكباحث شاب لا أستطيع الحصول على شقة، ولا فرصة للزواج، والارتفاع الجنوني للأسعار، وضيق الشقة علينا. كتبت مقالة «ابن خلدون بين النظرية والتطبيق» التي نشرت في مجلة «الكاتب»، بعددها رقم مائة وخمسة وتسعين، سنة سبع وسبعين. وسجلت موضوعي للدكتوراه، في الثلاثين من أبريل، عن فلسفة تأويل القرآن عند «محيي الدين ابن عربي»، مع أستاذي «عبد العزيز الأهواني»؛ فقد أدركت من الماجستير أن وراء عملية تفسير وتأويل القرآن أن هناك رؤية فلسفية، فأردت أن أدرس ما هذه الفلسفة الكامنة وراء تأويل الصوفي الكبير «محيي الدين ابن عربي» (560ه/1165م-638ه/1240م) للقرآن؛ تواصلا مع جانب آخر من جوانب تراثنا الفكري والديني والفلسفي، ألا وهو الجانب الصوفي الروحي.
Page inconnue