الفصل الثاني والثلاثون
الخيبة والفشل
رجع الأمير عمر إلى مضاربه كاسف البال، يكاد يشتعل غيظا، وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، فترجل عن جواده، واجتمع حوله شيوخ قبيلته، وكان قد أصيب بجرح في ذراعه اليسرى، فأتى المتطبب وغسل الجرح بالماء، وحمى أداة من الحديد، وكواه بها كأنه يميت ميكروبات الفساد، ورش على الجرح رماد خرقة محروقة وربطه، والأمير رابط الجأش لا يتألم ولا يتكلم، ثم سأل الذين حوله عن عدد القتلى، فقالوا له: زهاء مائتين، وقد أبلينا بلاء حسنا فقلتنا أكثر من ذلك. فأمر أن يرسل من يهتم بحمل الجرحى ودفن القتلى، وأن يستريح الرجال ساعتين من الزمان، ثم ينهضوا ويلحقوا بالعدو حيث يبيت تلك الليلة.
فقال له رجل شيخ من رجاله: ليس تبييتهم من صواب الرأي؛ لأن الليل حالك الظلام، وقد نصيب أحدا من أولاد الأمير عباس، والرأي عندي أن ترسل نستنجد عرب عنزه، فأنهم استنجدونا مرتين في حياة المرحوم والدك، فأنجدناهم، ونضرب موعدا نهجم فيه على بني صخر من جهتين مختلفتين، فإما أن يثوبوا إلى رشدهم ويردوا الأسرى ويصالحونا، وإما أن نخرب ديارهم ونمحو آثارهم.
فقال رجل آخر: وهذا ليس من صواب الرأي؛ لأن عرب عنزه ارتحلوا إلى جهات الجزيرة، أو هم على أهبة الارتحال، ورأيي أن ترسل إلى بني صخر نعرض عليهم افتداء الأسرى، ثم نترقب الفرص للأخذ بالثأر. وقال ثالث: إن الأمير حسانا إن قبل بافتداء أسرانا لا يقبل بتسليمنا الأميرة هند وأولادها، ولا بد ما يكون قد كتب كتابه الآن على الأميرة سلمى على جاري عادته.
ولما سمع الأمير عمر هذا الكلام صار الضياء في عينيه ظلاما ، فنهض واقفا وقال: من منكم أخو أخته يسير ورائي ويحمي ظهري، وعلي أنا وحدي ببني صخر كلهم!
ولكنه كان خائر القوى لكثرة ما نزف من دمه، فارتجفت ركبتاه وكاد يغمى عليه، فقال له الطبيب: تناول الآن شيئا من الطعام حتى تسترد قوتك وبعد ذلك تنظر في الأمر. وشعر هو بخوران قوته فاتكأ على عمود الخيمة، وأطرق وهو يكاد يتميز غيظا من نفسه ومن سوء طالعه؛ لأنه لو لم يعثر جواده لرد الأسرى وقهر الأعداء، ولولا أشعة الشمس التي أعمت أبصار رجاله لما دارت الدائرة عليهم، فكأن التقادير كلها كانت معاندة له، فالتفت إلى الذين حوله وكادت دموع الغيظ تنفجر من عينيه، وقال لهم: لا بد لنا من الراحة على كل حال، فعلقوا لخيلكم واستريحوا قليلا.
ثم أمر خدمه أن يقدموا لهم ما حضر من الطعام ودخل خباءه، وانطرح على بساط وحاول جمع أفكاره المتشتتة فلم يستطع، وشعر كان رأسه يكاد يشتعل، فنزع كوفيته وعقاله، واتكأ على مسند وجعل يغمض عينيه ليزول من أمامه شبح أمه وشبح الأميرة هند وأولادها، فزادت تلك الأشباح تجسما، وكأنه كان يسمع أصواتهم ترن في أذنيه وتناديه ليسرع إلى نجاتهم، وخيل له أنه سمع الأميرة سلمى تناديه وتقول له: نزلنا عليك ضيوفا لتسلمنا إلى هذا الوغد الزنيم! ما كذا تفعل العرب الكرام. وسمع الأمير حسانا يعرض عليها الزواج به ويهددها بقتل أخويها إن أبت، فارتعدت فرائصه وحاول النهوض، ولكنه لم يستطع؛ لأن الحمى كانت قد تمكنت منه وجعلت الأخيلة تتراءى أمام عينيه، وخيل له أنه عاد إلى ميدان القتال فجعل ينخي رجاله ويحرضهم على الهجوم، وكان صوته يرتفع أحيانا حتى يسمعه فيستيقظ وفي أقل من لحظه يعاوده البحران.
وسمع خدمه هذيانه فخافوا ونادوا الطبيب، فدخل وجس نبضه وغلى بعض الأعشاب وسقاه غلايتها، ونزع جزمته من رجليه وغطاه، فعرق عرقا غزيرا، ثم نهض وخلع ثيابه وشرب قليلا من اللبن فانتعشت قواه، ولكنه لم يستطع أن يصرف عن ذهنه التفكير بأمه والأميرة هند وأولادها، لا لأنه كان يخشى عليهم شرا؛ لأن العرب لا يسيئون إلى أسراهم، ولا سيما إذا كانوا من كرام القوم، بل يحتفظون بهم ليأخذوا فكاكهم؛ ولكن لأن الكلام الذي سمعه عن الأمير حسان كان أوقع في نفسه من ضرب الحسام، فجعل يضرب أخماسا لأسداس ويوازن بين الأساليب التي يمكن أن يسترد الأسرى بها ويقهر عدوه من غير أن يقع بهم ضرر، فلم ير أسلم عاقبة من افتكاكهم ولو بكل ما يمتلكه. وقال في نفسه: إن حسانا وإن كان زير نساء إلا أنه يفضل المال على كل شيء، فإن أنا أعطيته مائة جمل أو مائتي جمل أو خمسمائة جمل، فعل ما أريد، فأشتري شرفي الآن بالمال القليل، ومتى انفرجت هذه الأزمة يدبرها الله، ثم استدعى رجاله وقال لهم: ما قولكم لو عرضنا الفداء على الأمير حسان وأجزلنا له العطاء؟ فاجمعوا على أنه ممن يشترى بالمال، ولكنهم خافوا أن يصر على بقاء الأميرة هند وأولادها عنده؛ إما رغبة في الأميرة سلمى، وإما طمعا بأن بني شهاب يفتدونها بالأموال الطائلة.
وبينما هم في الحديث دخلت أم يوسف، وهي تصيح وتقول: أين شهامة العرب يا أمير عمر؟! أتترك ستي وأولادها في السبي؟! أرسلني إلى بيروت حتى أخبر قنصل الإنكليز، فإن الست سلمى مخطوبة لأمير إنكليزي، وإذا عرف ما أصابها أتاكم بألف عسكري إنكليزي.
Page inconnue