وكل الفضل لآل شهاب
وكانت واحدة منهن تقول الدور، والباقيات يرددن عليها على نقر الدفوف والمزاهر، فطربت الأميرة هند والأميرة سلمى، ووقفتا هنيهة تسلمان عليهن وتقولان: مرحبا بالزينات، مرحبا بزينات الدار ربات الفخار. حتى إذا دخلتا الحلة وجدتا الأميرة عاتكة أم الأمير عمر واقفة في باب خدرها، فسلمت على الأميرة هند مصافحة، واعتنقت الأميرة سلمى وقبلتها في وجنتيها، وجلس الأمراء وحدهم في مضرب كبير والأميرات وحدهن، وقدمت لهم كلهم القهوة الجديدة وكئوس الشراب، ثم مدت أسمطة الطعام وعليها الخرفان المحمرة، وكان عند الأميرة عاتكة جارية تحسن الطبخ التركي، فطبخت للأميرات ألوانا من الطعام والحلوى لم يأكلن أطيب منها .
ولم يكن الأمير عباس ضعيف البنية، ولكن الترفه الكثير والانقطاع للمطالعة أضعفا جسمه، فصار لا يقوى على عوادي الأدواء، وكأنه أكل طعاما غير صالح أو شرب ماء تطرق إليه الفساد وهو آت في الطريق، أو أثرت فيه حرارة الشمس، أو أصابه أمر آخر، فلم يكد يتم عشاءه حتى أصابه صداع شديد، وكانوا قد أعدوا له مضربا خاصا، فقام إليه وجاشت نفسه فتقيأ ما أكله وحم وأصابه شيء من الهذيان، وأخبرت زوجته وأولاده فأتوا مضربه وقد تولاهم القلق، ولما رأت أم يوسف القيء قالت: إن سيدي مسموم. قالت ذلك همسا في أذني الأميرة هند، وخرجت تدعو الخدم ليأتوها بكثير من اللبن حتى تسقيه، وفهم الأمير عمر مرادها فاسودت الدنيا في عينيه، وقال لها: إننا أكلنا معا من خروف واحد وعن سماط واحد، وشربنا القهوة من غلاية واحدة، وأنا شربت قبله. فأخذت تعتذر عن نفسها، وقالت: ربما يكون سيدي قد شرب شيئا أو أكل شيئا في الطريق. وأتوها بكثير من اللبن لكن الأمير أبى أن يشربه.
وأرسل الأمير عمر أربعة فرسان إلى دمشق يستدعي طبيبا من أمهر أطبائها.
واشتدت الحرارة على الأمير عباس إلى درجة لا تطاق، حتى كاد يشتعل ثم انحطت سريعا، وجعل يشكو من ضيق النفس والعطش الشديد، وجعل جلده يجف ثم يتندى بالعرق دواليك، ونبضه يسرع ثم يبطئ، وازرق وجهه وعنقه، وانقبضت حدقتاه ثم اتسعتا، وأصابته تشنجات صرعية وعقب ذلك سبات عميق.
وكان في القبيلة شيخ كبير مارس صناعة التطبيب من غير معلم ومن غير كتاب، ناقلا ما يعرفه عن أبيه وجده، ومضيفا إليه ما عرفه بالاختبار، فاستدعاه الأمير عمر حالا، فأمر بصب الماء الكثير على رأس الأمير عباس قائلا إن ما أصابه ضربة شمس، ورأت الأميرة هند أن ما قاله الرجل صواب؛ لأن الشمس كانت حارة، وكان نورها ساطعا جدا حتى اضطرت أن تسدل نقابها على وجهها أكثر الطريق، ولم تخف حرارتها بعد غيابها، فأذنت لهم في صب الماء على رأسه، وخالفتها أم يوسف في ذلك، وهي تقول : «سموه يا ستي سموه، اسمعي مني واسقوه اللبن وزلال البيض.» لكن الأميرة هند لم تصغ إليها بل أمرت بصب الماء، وكان ماؤهم باردا؛ لأن الأرض جبلية؛ فانتعش الأمير عباس قليلا ثم عاودته الحمى وأسلم الروح.
الفصل السابع والعشرون
المأتم
تمر الرزايا بالمرء فيراها عن بعد، ويستعظمها قبلما تصل إليه، ويظن أنها إذا وقعت به ضاق بها ذرعا، لا سيما وأنه يعظم أمرها في غيره، ويعجب من صبرهم عليها، ثم إذا حلت به فالغالب أنه يصبر عليها ويجري معها كأنها أمر عادي وقع له؛ لأن الأمل بالنجاة منها يخفف وطأتها ويحلي مرارتها، ولكن إذا جاء المصاب الأكبر ونفذ سهم القضاء، وانقطع الأمل من البقاء، وخطف الموت عزيزا، ورأى المرء أمامه رزيئة لا يمكن دفعها ولا منعها؛ نفد صبره وغاض ينبوع أمله وضاقت به الحيل وارتد دمه إلى قلبه، فلم يعد يغذي دماغه لتذكيره بالمواعظ والحكم، فيسمع منك أقوال التعازي ويقول: «سمعت وفهمت» ويكون قد سمع وفهم، ولكنه لم يع شيئا، حالة لا يتصورها إلا من وقع فيها ورزئ بفقد عزيز، ولا سيما إذا كان سنده الوحيد ومدبر أمره.
هذا ما أصاب الأميرة هند وأولادها، وهي غريبة نزيلة على قوم من البدو في بلاد لم تطأها قدماها من قبل وبين أقوام لا تعرف أحدا منهم.
Page inconnue