أخ!
منصور :
مالك؟! مالك؟! يا مسكين! الذي تأتي ورقته يذهب غصبا عن رقبته. في رأسك؟! رصاصهم عال، هذه الرصاصة من صاحب اللفة البيضاء خذها يا ملعون.
وسدد إليه بندقيته ورماه فلم يصبه، ثم التفت فرأى الأمير خارجا من باب داره ومعه صندوق صغير فتناوله منه وجرى وراءه.
وكانت الشمس قد تكبدت السماء، ورأى النصارى أن الدروز تكاثروا عليهم، وكادوا يحيطون بهم من كل جهة، فأركنوا إلى الفرار، وتبعهم الدروز إلى قرب الشياح، وقتلوا منهم زهاء ثلاثين نفسا، وفي جملتهم الأمير بشير قاسم الملقب بأبي طحين.
ووصلت العيال إلى بيروت في الصباح بعد شروق الشمس بساعة أو ساعتين، وتفرقت في أحياء المدينة، واضطر الأولاد الصغار من ابن ست سنوات فصاعدا أن يسيروا هذه المسافة كلها مشيا على أقدامهم، والرجال الذين ساروا معهم لحمايتهم لقيهم الخفر عند فرن الشباك والميدان، وأخذوا ما معهم من الأسلحة بأمر والي بيروت، فلم يعودوا يستطيعون الرجوع لنصرة إخوانهم.
الفصل الثامن عشر
التفتيش عن الأميرة سلمى
عاد الترجمان من مقابلة المرسلين والقناصل، واجتمع بالسر هنري وتذاكرا مع القنصل مليا، ثم خرج السر هنري مع الترجمان يتعهدان أحوال النصارى الذين وصلوا إلى بيروت ذلك الصباح فارين من وجه الدروز، وكان الرجال الذين أصلوا نار الحرب، وناوشوا الدروز إلى أن تكاثرت جموعهم، واضطروا أن ينهزموا من وجههم؛ قد وصلوا إلى بيروت، وجعلوا يفتشون عن عيالهم، فكانت المرأة التي ترى أن زوجها أو ابنها أو أخاها لم يعد مع الذين عادوا، توقن أنه بين القتلى، فترفع صوتها بالبكاء والعويل، وتجلس تضرب صدرها وتنوح نوحا يفتت الأكباد، واجتمع كثيرات من النساء زرافات زرافات، وقد أسدلن الشعور وجعلن يلحن بالمناديل ويندبن ويبكين، وسمع أولادهم صوت البكاء والنواح فعلا بكاؤهم وعويلهم، وقام الرجال ينتهرونهم لكي يسكتوا أو يشاركونهم في البكاء، واجتمع عليهم نساء بيروت وأولادها يأتونهم بالخبز والماء ويرثون لبلواهم، وكان لأكابر الساحل أصدقاء وأقارب نزلوا عليهم، فوسع هؤلاء لهم في منازلهم وأحلوهم على الرحب والسعة.
وسار السر هنري والترجمان من محلة إلى أخرى يرون الرجال ويستقصون الأخبار، والسر هنري يكتب في مذكرته كل ما يراه ويسمعه، وكان يعلم اسم الأميرة سلمى، ويعلم أنها شهابية، ولكنه نسي اسم أبيها ولم يكن يدري كيف يسأل عنها، فقضى من العصر إلى قرب الغروب ينتقل من محلة إلى أخرى، ومن حي إلى آخر، فلم تقع عينه عليها ولا على أمها ولا على أبيها، فزاد انشغال باله وكاد يبوح بما في نفسه للترجمان لعله يساعده على التفتيش عنها.
Page inconnue