ومر وهو راجع في طريقه ببيت رجل اسمه الشيخ درويش ويكنى بأبي فخر، وكان هذا الرجل قد رآه ذاهبا إلى دار القنصل، فجلس في رواق بيته ينتظر عودته، حتى إذا مر به قام للقائه ودعاه لينزل ويشرب القهوة، واعتذر الأمير عن النزول بفوات الوقت، فقال له: ألا نزلت، فإن المرحوم والدك كان يشرفنا كلما نزل إلى بيروت، وبيتنا مستعد لقبول الزوار، وأمس شرفنا الوالي والسرعسكر. وما زال به حتى ترجل وصعد معه إلى رواق كبير يطل على الطريق، فلما جلس قال له الشيخ درويش: يا سبحان الله! إنك جلست على الكرسي الذي كان يجلس عليه المرحوم والدك! وهو الكرسي الذي يجلس عليه دولة الوالي كلما زارنا، هات أخبرني أين كنت؟ ولا تخف عني شيئا، فإن المرحوم والدك كان يطلعني على كل أخباره وأسراره، وقد كان أبي صديقا له، وأوصاني لأكون صديقا لك، قل لي أين كنت؟ فقال الأمير: كنت في بيت الكولونل روز لشغل خصوصي.
فقال الشيخ: أي نعم لشغل خصوصي، اسمع يابني ولا تملك الأجانب منك، ولا تحد عن خطة أبيك - رحمه الله، ولماذا لم تذهب إلى بيت الوالي مثل سائر مناصب الجبل؟
فقال الأمير: إني ذاهب إليه.
فقال الشيخ: أحسنت أحسنت، وتفضل خذ القهوة. انظر ما أجمل هذه الفناجين! فإنها من الصيني الحر، اشتراها المرحوم والدي من دمشق الشام، كل فنجان بعشرة فندقليات، إذا رميته على الأرض لا ينكسر! والظروف من صياغة إسطانبول: فضة روباص، وذهب بندقي، والمرجان من أعلى طبقة. الظروف اشتريتها أنا من إسطانبول، أخذتها من الدلال بثمن بخس بالنسبة إلى ثمنها الأصلي، كانت لأزميرلي باشا الصدر السابق، وبيعت مع بعض التحف بعدما قتل، ما أكثر تقلبات الدهر! يقال إنها كانت للسلطان مصطفى، نعم كانت للسلطان مصطفى، فأهداها إلى أزميرلي باشا، أما أنا فاشتريتها بمالي، كل ما عندي اشتريته بمالي؛ لأني أكره المهاداة، فإن الهدية بلية على ما يقال، فأنت الآن تشرب القهوة في فنجان من الصين، وظرف كان يشرب منه السلطان مصطفى - غفر الله له.
وكان الأمير أحمد يعرف هذا الرجل وحبه للفخر والمباهاة، ولذلك لقب أبا فخر فلم يسؤه كلامه، لكنه ود تقصير الزيارة على قدر الإمكان، فلم يكد يشرب القهوة حتى نهض، وقال: تعذرني الآن يا أبا فخر لأنه لا بد لي من رؤية دولة الوالي.
فقال: أحسنت، وإن أردت فأنا أذهب معك إليه، ولكن قد حانت صلاة العصر، ولا بد لي من الذهاب إلى الجامع، لأني لا أترك الصلاة مطلقا فعلى الطائر الميمون.
فودعه الأمير بعد أن طلب إليه أن يشرفه إلى الشويفات، وركب جواده وسار إلى دار الولاية، وأقام مع الوالي نصف ساعة دار فيها الحديث على شئون الجبل، وكان الوالي يتودد إليه على خلاف عادته، وقال له: أنتم سيف الدولة ولا غنى لنا عنكم، ولا غرض لنا إلا استتباب الأمن في البلاد، وكف يد الأجانب عنها، ولا بد للدولة من ذلك مهما كلفها، ونصيحتي لك أن تكون في خاطرها مثل أبناء عمك.
فقال الأمير: نحن لا نخرج عن خاطر الدولة؛ لأن طاعتها فرض علينا، ولكن يا حبذا لو فضت هذه المشاكل من غير حرب أهلية.
فقال الوالي: هذا الذي نوده، ولكن إذا كان لا بد من الحرب الأهلية، فالدولة لا تتغاضى عنكم؛ لأنها لا تترك الحزب القوي ليفتك بالضعيف، وقد أبنت رأيي بالإسهاب لشيخ العقل، ولا بد من أن يجمعكم ويبسطه لكم، ولا أخفي عليك أن ترددك على القنصل لا يرضينا.
فقال الأمير: كيف ذلك؟! والذي أعلمه أن دولة الإنكليز من أشد الدول صداقة لدولتنا العلية.
Page inconnue