الإهداء
تمهيد
1 - الأمير عمر طوسون في صباه
2 - الأمير عمر طوسون في شبابه
3 - أفضال الأمير عمر طوسون على التاريخ المصري
4 - الأمير عمر ومحاضراته الثقافية
5 - فضل الأمير عمر طوسون على النهضات الوطنية
6 - نخوة الأمير عمر طوسون
7 - مآثر الأمير عمر طوسون على الجمعية الزراعية الملكية، وجهاده لتنشيط النهضة الزراعية والصناعية
8 - هباته الإنسانية ومبراته
9 - الجمعيات التي يشترك فيها
10 - أفضاله على القطر الشقيق
11 - صفاته المحببة وديمقراطيته العظيمة
12 - ذكريات مطوية من ذيول الحرب الكبرى الماضية!
13 - وصيته الأخيرة ومعانيها الفاضلة
14 - آثاره المجيدة، أو بعض أفكاره السديدة!
15 - مسألة الوقف الأهلي
16 - المرأة والعمل في رأي سمو الأمير عمر طوسون
17 - إصلاح القرية المصرية وترقية شئونها الصحية
18 - ما يراه في شئوننا الاجتماعية
19 - حول تغيير لباس الرأس في الجيش المصري
20 - منافسة المرأة للرجل في ميدان العمل
الإهداء
تمهيد
1 - الأمير عمر طوسون في صباه
2 - الأمير عمر طوسون في شبابه
3 - أفضال الأمير عمر طوسون على التاريخ المصري
4 - الأمير عمر ومحاضراته الثقافية
5 - فضل الأمير عمر طوسون على النهضات الوطنية
6 - نخوة الأمير عمر طوسون
7 - مآثر الأمير عمر طوسون على الجمعية الزراعية الملكية، وجهاده لتنشيط النهضة الزراعية والصناعية
8 - هباته الإنسانية ومبراته
9 - الجمعيات التي يشترك فيها
10 - أفضاله على القطر الشقيق
11 - صفاته المحببة وديمقراطيته العظيمة
12 - ذكريات مطوية من ذيول الحرب الكبرى الماضية!
13 - وصيته الأخيرة ومعانيها الفاضلة
14 - آثاره المجيدة، أو بعض أفكاره السديدة!
15 - مسألة الوقف الأهلي
16 - المرأة والعمل في رأي سمو الأمير عمر طوسون
17 - إصلاح القرية المصرية وترقية شئونها الصحية
18 - ما يراه في شئوننا الاجتماعية
19 - حول تغيير لباس الرأس في الجيش المصري
20 - منافسة المرأة للرجل في ميدان العمل
الأمير عمر طوسون
الأمير عمر طوسون
حياته - آثاره - أعماله
تأليف
قليني فهمي
الإهداء
مرفوع بيد الإجلال والإكبار لمقام حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك المحبوب.
فاروق الأول المعظم.
مولاي صاحب الجلالة
لي الشرف العظيم، بأن أرفع لمقامكم السامي الكريم، بكل ولاء وإخلاص، وبفيض من التعظيم والتكريم، كتابي في حياة فقيد مصر والشرق جميعا، المغفور له الأمير الجليل عمر طوسون - طيب الله ثراه - أحد أعضاء أسرتكم المجيدة، الذي كان عمادا للكثير من الهيئات العامة في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والصناعية والزراعية في البلاد، فضلا عن رئاسته للعديد من المؤسسات الإنسانية البارة التي عم الخير منها أبناء الشعب، الذي تحبونه جلالتكم، وتسهرون على توفير أسباب السعادة له؛ إذ كانت مبادئه القويمة في كل خدماته النافعة مطابقة لمبادئ جلالتكم، ومحققة لرغباتكم النبيلة في الخدمة العامة.
وإني لأرجو يا مولاي، أن ينال كتابي هذا لدى جلالتكم قبولا وارتياحا، وآمل أن يكون فيه خير حافز للعاملين على إذاعة فضائل عظمائنا البارزين، معتبرا هذا الأثر بمثابة طاقة من الزهور، أضعها في خشوع وتقدير على جدث الأمير الطاهر المبرور، إقرارا بأفضاله، واعترافا بعظيم أعماله، رحمه الله وجعل الجنة مثواه، والله تعالى أسأل أن يديم حياة جلالتكم الغالية لرعاياكم الأوفياء ذخرا، ويحفظكم للشعب نصيرا، وللبلاد فخرا.
خادمكم الأمين
قليني فهمي باشا
تمهيد
كلمة المؤلف
إن تاريخ العظماء في كل أمة هو عنوان مجدها، ورمز حضارتها.
ولقد اهتم المفكرون وذوو الرأي السديد في كل أقطار العالم بتدوين سير العظماء والأعلام الذين أفادت منهم الإنسانية، بما أدوه لها من جلائل الأعمال، مصورين حياتهم، واصفين محاسن شمائلهم، ساردين مآثرهم؛ لتكون كالشهاب الثاقب، يستضيء بنوره أبناء الأجيال الحاضرة والمقبلة؛ لاكتساب المفاخر والمناقب التي تجعل منهم أبناء بررة ورجالا عاملين!
المغفور له فقيد الشرق الأمير الجليل عمر طوسون.
والأمم برجالها، والرجال بأعمالها، وأصحاب الهمم العالية والعزائم القوية هم أرباب الأعمال المجيدة، والآثار المفيدة! وهم بدورهم أبطال التاريخ، وجبابرة الشعوب!
وعظماء الناس في كل جيل وقبيل، وفي كل زمان ومكان، هم أولئك الذين تفاخر بهم الإنسانية على توالي الأعوام. فهم كالكواكب الساطعة ينيرون ظلمة العالم، أو هم «كالملح» - كما يقول «نابليون بونابرت» - يصلحون طعام الوجود!
فالناظر في تاريخ العظماء - وما فيه من عظات وعبر - يدرك أن عظمتهم، وما تركوه وراءهم من تراث لا يفنى، إنما هو ميراث للبشرية جمعاء، وأن الناس كلما استعادوا ذكراها، أو استفادوا بها، إنما هم يستنزلون وحي ما لهم من بطولة على الصدور، كأن الأحياء الدارجين على رقعة الأرض يقاسمونهم خلودهم، وهم بين الرمس وفي طيات الثرى!
وفي حياة كل العظماء مادة لا تنفد ولا ينضب لها معين لكل من يريد أن يتناولها بالعرض والتحليل، فالأعلام في الأمم هم الذين يتضاءل الموت حيال أسمائهم، بل يظلون خالدين مذكورين على كل لسان! وتظل أعمالهم منقوشة على صفحات الصدور على الدوام، تستروح منها الدنيا أرجا جميلا يلهم الأفكار السامية، ويحض على عظائم الأمور والأعمال الحسان! •••
ونود الآن أن نطبق على فقيد مصر والسودان، والأقطار الشرقية على العموم؛ الأمير الجليل المغفور له ساكن الجنان «عمر طوسون» - طيب الله ثراه - هذه الآراء، فنذكر أن حياته تكاد تكون في مجموعها - جملة وتفصيلا - صفحة حافلة رائعة، من خيرة الصفحات التي يزهو بها تاريخ مصر الحديث، مزدانة بأنصع وأنفع السطور التي هي من مجد البطولة، ومن وحي الذكاء والفطنة، ناطقة كلها بالفضل العميم، والإيثار في سبيل المجموعة، والبذل والتضحية للخير العام!
وحسب تاريخ هذا الأمير الكريم فخرا أن يجد فيه شباب الشرق وأبناء الأجيال الناشئة هداية يسترشدون بها إلى سبيل هذه الفضائل التي كانت تتجسم في شخصه العظيم. وحسب أعماله تخليدا أن ينبعث منها النور الوهاج الذي يسطع في عقول العاملين ليلهمهم معنى الجهاد في سبيل استكمال رقي البلاد، والكفاح للوصول إلى المثل الأعلى في تحقيق وسائل النجاح، بما يطبعون به حياتهم من حميد صفاته، وسامي تضحياته، وباهر أعماله، وفاخر فعاله. •••
وبعد، فهذا هو كتابه المجيد.
وهو تحية العرفان لفضله العتيد الذي لا تحيط به الأقلام!
تحية التقدير الذي ينطق به وادي النيل من منبعه إلى مصبه ومن مصر إلى شقيقها السودان!
وهو رمز البر بذكراه العطرة، ودلالة الاعتراف بجميل صنيعه، الذي سوف يبقى مذكورا مشكورا، ما بقيت في الصدور مشاعر الإخلاص والوفاء، وفي النفوس أحاسيس المحبة وشعائر الولاء!
وإني إذ أنهض بأداء هذا الواجب نحو الفقيد العظيم إنما أؤدي له بعض ما طوق به عنقي من حب خالص متبادل، وود عال مشترك، ورعاية دائمة، مبتهلا إلى الذي بيده ملكوت كل شيء، أن يتغمده بواسع رحمته، ويعوض البلاد والشرق كله في فقده خيرا، ويلهم أنجاله الكرام أصحاب السمو الأمراء النبلاء، جميل الصبر وحسن العزاء.
قليني فهمي باشا
مقدمة
بقلم محمد حلمي عيسى باشا
أطلعني صديقي قليني فهمي باشا على بعض ما كتب في سيرة الأمير الجليل المغفور له عمر طوسون. ومن عرف قليني باشا كما عرفناه استقر في نفسه أنه «معجم» حي، ملم بحياة وتاريخ كل من عاصرهم وعاصروه، وعاشرهم وعاشروه، حباه الله ذاكرة قوية لا تخونه، وإن طال القدم، ووهبه نشاطا فتيا، لا تصيبه الشيخوخة، وإن تقدم به الزمن! شغوف بإظهار مواهب الرجال، ذوي الفضل والأثر في تاريخ الأمة المصرية، وتقدمها، وتطور نهضتها؛ والعمل على رقيها، واستظهار مجدها في التاريخ القديم والحديث، وله ميزة إبراز الحوادث المؤثرة في النفوس، الدالة على حضور الذهن وسرعة فض المشكلات، والتخلص من الوقوع في الأزمات والورطات - سياسية كانت أو اجتماعية - ينطق بذلك ما كتبه، وما ألفه، ويشهد به من سمع قليني باشا في أحاديثه الطريفة.
فمن سمعه راوية كمن قرأه كاتبا، لا تحوير ولا تبديل، ولا تنميق في اللفظ أو العبارة! فلا غرو إذا رأيناه شغف بالإسراع في إظهار كتاب حوى تاريخ أمير جليل، وهو الأمير عمر طوسون: عرف الناس قدره حيا وميتا، فأجلوه وعظموه، وكان لهم من حياته درس نافع ومثل يقتدى. فمع سمو حسبه، وشرف مرتبته، لم يخلد للسكون، بل اشتغل عالما ومؤرخا لا ينقب إلا عما فيه مجد مصر، وفخر مصر. واشترك في الجمعيات العلمية والزراعية عاملا فيها على ما يقوي ويثبت دعائمها، وأسس نهضاتها لتتبوأ مكانها اللائق بها.
معالي حلمي عيسى باشا.
كما كان أسوة حسنة في القيام بمباشرة أعماله بنفسه، والتنقل في مزارعه بتعهدها والإشراف عليها بشخصه!
وإنا لنتمنى أن يتجه أبناء مصر جميعا، على سائر طبقاتهم، هذا الاتجاه الذي اتجه إليه واضع الكتاب؛ من إذاعة فضل الناس وصاحب السيرة الحميدة، ليقتفي أثره كل من يحب وطنه وقومه. والسلام على من اتبع الهدى.
8 مارس سنة 1944
الفصل الأول
الأمير عمر طوسون في صباه
تمهيد
من الخير لمحبي التاريخ، بل نقول إن الأجدى لأولئك الذين يرغبون في الاستقصاء عن الحقائق - عندما يعرضون لتحليل شخصية عظيمة لأحد هؤلاء البارزين من أعلام البشر - أن يتناولوا النشأة الأولى لميلاده؛ حتى يأتي تاريخه سفرا كاملا حافلا، يطالعه الناس فيلموا بالأسباب التي كونت عناصر حياته الزاهرة وملأتها بالمكارم وأسرار البطولة!
ساكن الجنان الأمير عمر طوسون.
وهم حين ينهجون هذا النهج إنما يكشفون عن الجوانب الثمينة التي تنطوي عليها نفسه الفتية، مما يصح أن يكون مبعث فخار، ومثار مجد وزهو لأمته حيال الأمم الأخرى!
وعلى هذا الأساس، فنحن نورد تاريخ الأمير الجليل المغفور له ساكن الجنان عمر طوسون منذ مولده السعيد.
النشأة الأولى
ولد أميرنا العظيم - رحمه الله - في مدينة الإسكندرية، في يوم الأحد (5 رجب سنة 1291ه) الموافق (8 سبتمبر سنة 1872م)، وكان والده هو الأمير محمد طوسون باشا، نجل والي مصر العظيم المغفور له محمد سعيد باشا، ابن المغفور له محمد علي باشا الكبير، رأس الأسرة العلوية الكريمة، ومنشئ مصر الحديثة، ويعتبر أبوه من أعاظم أمراء البيت المالك في مصر.
وقد توفي والده الكريم والأمير لم يكمل من سنيه الرابعة؛ فكفلته جدته لأبيه خير كفالة، وعنيت بتربيته على أحسن الوجوه، هو وإخوته وأخواته الكرام. وقد تلقى سموه وهو في حداثته مبادئ العلوم على أيدي أساتذة مختارين، في قصر والده، فنشأ محبا للدرس، مولعا بالبحث، ولما شب عن الطوق سافر إلى سويسرا للعلم والتحصيل، فأكب على الاغتراف من مناهل المعرفة، ودرس في كبرى جامعاتها دراسة مستفيضة، حيث استكمل تعليمه، وغدا في أسمى درجات الكمال.
سياحاته إلى الخارج
وقد قام الأمير عمر بعد ذلك بعدة سياحات في البلدان الهامة من أوروبا؛ فنزع إلى بلاد الإنجليز، وفرنسا وغيرها للدراسة، ووقف خلال سياحاته على أسرار تقدم هذه الأمم في النواحي الاجتماعية، وانتفع بهذه الرحلة، بإحاطته بأسباب الحضارة العصرية السائدة في هذه الأمم، وتمييزه بين الغث والسمين فيها، وتدقيقه وبحثه في العوامل التي كفلت تفوقها الصناعي والعلمي والزراعي؛ مما أفاده في النهاية فوائد جزيلة، استغلها في التوجيه الذي كان يشير أو ينصح أن تتجه إليه البلاد، لاقتباس ما يلائم طبيعتها وبيئتها وتقاليدها منه، من دون أن تصطدم بقوميتنا التي كان يحرص سموه على الاستمساك بها!
اللغات التي كان يجيدها
وحين عاد الأمير عمر طوسون من رحلته، بعد أن اختمرت نفسه بالرؤية والدرس، تفاعلت مشاهداته مع ما كان يعتمل في صدره من الرغبات القوية لخدمة بلاده؛ فبعثت فيه عقلا صقلته مباهج المعرفة، وهمة وثابة تحفزها حماسة الشباب إلى عظائم الأمور، وسعة إدراك بالمشكلات الكبرى التي تشغل أذهان المفكرين في العالم المتمدين، وجعلت منه كل هذه المواهب، مفكرا حصيفا، وألمعيا يشار إليه بالبنان.
وقد دفعته رغبته في الاطلاع، ومحبته للقراءة على إجادة عدة لغات حية، أهمها - فوق العربية - التركية والإنجليزية والفرنسية؛ مما ينم على سعة دائرة المعارف التي كان يحيط بها، ويقف منها على كل نافع ومفيد.
اقترانه وأنجاله
وفي 14 أغسطس من سنة 1898، عندما ناهز الأمير عمر طوسون السادسة والعشرين من عمره، تزوج بإحدى كريمات المغفور له الأمير حسن باشا نجل الخديوي العظيم المغفور له إسماعيل. وقد أنجب من البنين «النبيل سعيد طوسون» في 7 يناير سنة 1901، و«النبيل حسن طوسون» في أول ديسمبر سنة 1901، و«النبيلة أمينة طوسون» في 2 فبراير سنة 1903، «والمغفور لها النبيلة عصمت طوسون» في 17 مارس سنة 1904. وقد سهر سموه على تعليمهم وتثقيفهم بما يتفق وما هو عليه من سمو الهمة، وعالي الإدراك، وبما يطابق طالعهم السعيد، حتى غدا كل منهم - لا سيما نجليه الكريمين - خير خلف لأحسن سلف - أو كما يعبرون - «هذا الشبل من ذاك الأسد!»
عادات الأمير ورحلاته وهوايته
ومنذ كان الأمير في صباه، حين كان لين العود، ريق الشباب، وهو مولع بالسياحة، محب للرياضة، وشغفه بالفروسية - على وجه التحديد - يعرفه كل من كان له به صلة، فهو من الرماة المهرة، وله في الصيد قدم راسخة.
وظل شغفه هذا بالرياضة ملازمه في كل مراحل حياته العامرة بالمجد، والجد، والدأب على العمل، ولما تقدمت به السن، استحال هذا الشغف إلى رعاية كريمة، كان يوليها للهيئات الرياضية في البلاد. فكانت أياديه البيضاء عليها تحفزها إلى الإقرار بأفضاله، وتنشط همتها، وتضاعف عزيمتها لرفع شأن البلاد، وكان دائما يختار رئيسا لها بالإجماع من حين إلى حين.
أما سياحاته فتنطق بها آثاره المشهورة، وكان كلفه بها داعيا له على أن يجعل له حاشية خاصة ترافقه إلى الجهات النائية التي يرحل إليها، باحثا منقبا. والجميع يعلمون أن سموه كان رحالة بحاثة، وإليه يرجع الفضل في التعريف بالكثير من مجاهل طرابلس، والصحراء الغربية، والأمكنة التي لم تكن معروفة في مريوط ووادي النطرون. ولعله المصري الوحيد الذي أحاط بدقائق المعلومات عن هذه الأماكن، بدوام تردده عليها، ومخالطته لأهليها، وتدارسه عن عاداتها مع علمائها وعلية الناس فيها!
كما لا ينسى أحد ما كان لرحلاته إلى الواحات الخارجة وغيرها عن طريق الصحراء من عميم النفع، وما توصل إليه في هذه الرحلة العظيمة من المعلومات المفيدة، وزيارته لدير المحرق في عام 1935، وما أثمرته هذه الرحلة وسواها من المؤلفات النفيسة التي أصدرها سموه ناطقة بأمجاد تاريخنا، مما سنفصله في الفصول القادمة.
الفصل الثاني
الأمير عمر طوسون في شبابه
اضطلاعه بإدارة أعماله
من يقف على أطوار هذه الحياة النافعة التي عاشها فقيد الشرق العظيم الأمير عمر طوسون، يعجب أشد العجب من ممارسته لمتعدد الأعمال، في غير ضجر أو تعب، واستغلاله لكل لحظة فيها بما يعود بالخير على البلاد، في غير سآمة أو ملل!
فما كاد سموه يعود إلى موطنه بعد استكمال دراسته، وإتمام سياحته، حتى كان قد بلغ أشده، وأشرف على سن رشده، فتولى شئون دائرته، وأمسك بزمامها بنفسه: يصرف أمورها على تعدد أعبائها في حكمة، ورصانة؛ تشهد له بالمهارة والاقتدار!
وأخذ الأمير عمر من هذا اليوم يطوف بمزارعه شرقا وغربا، ويمارس الفلاحة إلى جانب أهل القرى، وكلما وقع على رأي في كتب الفنون الزراعية أشار بإدخاله، مطبقا العلم على العمل، جاهدا في الوقوف على الأصول العلمية لاستثمار الأرض، مراجعا للمسائل الإدارية التي يقتضيها إشرافه الكامل على زراعاته الواسعة، حتى أصبح سموه بعد قليل مزارعا من القلائل الذين خبروا أحوال الزراعة المصرية وعرفوا أسباب تقدمها ، وعوامل تأخرها. وقد كانت معارفه، واختباراته وليدة الأسس الصحيحة التي بنى عليها سموه شهرته كمزارع؛ فقد انتفع بتجاربه، التي هي ثمرة الدرس والعمل معا في هذه الناحية الحيوية الهامة، وما يتصل بها من الجوانب الاقتصادية. فكان للبلاد المعلم الحكيم والمرشد الأمين، في كل معضلة، فقد كان ينير لها بسديد آرائه الظلمات المدلهمة في مسالك الوجود!
سموه يدير أعمال بعض الأمراء
ولقد اكتسب سمو الأمير من ألوان التجارب في إدارته لمزارعه ونهوضه بأمورها الإدارية والمالية ما لا يحيط به البيان. ويكفي أنه لم تمض فترة طويلة حتى كانت مواهبه الطبيعية قد أهلته لأن يكون في طليعة المزارعين العظام؛ في سعة الاطلاع، وفي الشئون الاقتصادية التي غدا فيها جميعا يشار إليه بالبنان. ومن هنا عهد إليه بالإشراف على إدارة دائرتي الأمير حسن باشا ابن الخديوي العظيم إسماعيل والأميرة خديجة هانم، مع ملاحظة شئون دائرة الأمير محمد إبراهيم وغيره من أفراد الأسرة العلوية المجيدة. وكان سموه في كل هذه الأعمال، وما تستلزمه من التضحيات الثمينة بالوقت النفيس، والجهد الجهيد، متفضلا متطوعا، غير مبال بتعب أو حافل ببذل - شأنه في كل خدماته العامة، يحدوه حب الخير الغريزي، وإسداء المعروف لذاته - سواء للقريب أو البعيد بغير أدنى مفاضلة. ولعله من تقرير الوقائع، وإيراد الحقائق، أن نذكر أنه بفضل همة الأمير عمر، وحسن إرشاداته، وجميل رعايته، أصبحت هذه الدوائر في الناحية الإدارية مثالا يحتذى، وأصبحت في مقام ملحوظ، مدعم الأساس، على أكمل الوجوه!
من علامات حسن إدارته
كان سمو الأمير عمر - منذ شبابه الباكر - يميل للعمل، فلم يطاوع في حياته الأهواء، بل كان يملأ كل يوم من أيام عمره المبارك، بكل ما يدر الخير، ويؤتي أطيب الثمرات. وفي ذلك يقول عنه صاحب السمو الملكي الأمير الجليل محمد علي - أطال الله حياته - في حديث نشرته جريدة «المصري» الغراء لسموه مع مندوبها عن الأمير عمر طوسون ما نصه بالحرف الواحد:
كان سمو الأمير عمر طوسون أصغر أنجال طوسون باشا. نشأ على حب الدين والشرق؛ فكان يحافظ على التقاليد الشرقية والإسلامية محافظة دقيقة، لدرجة أنه في أيام شبابه لم نسمع عنه أنه انقاد لأهواء الشباب وميوله كسائر الشبان، بل حافظ على كرامة نفسه، فكان يصرف كل أوقاته في الأعمال النافعة كتنظيم دائرته وإصلاح أراضيه في حزم وقوة إرادة، عاملا على استرداد الأطيان والأملاك التي كان يبيعها أخوه وأخته، وذلك بأن اشتراها لحفظ ثروة المرحوم والده كاملة لأولاده. واستمر سموه على إدارة شئون الدائرة التي استلمها سموه مرهقة بالديون دون ملل، وبكل ما أوتي من جهد ونشاط مدة خمسين عاما تقريبا مسددا للديون، ومشتريا للأطيان المذكورة.
وهذه الشهادة العظيمة التي يفضي بها سمو الأمير الجليل محمد علي هي آية عظيمة، تنطق من تلقاء نفسها بحسن إدارة سموه لأعماله، وهي تغني عن كل إفاضة. ويستطيع المؤرخ أن يتأملها في روية، ليتضح له من بين السطور أن عنايته وجهوده قد كفلتا لكل ما بذله من خدمة ألوان النجاح والتوفيق؛ مما مكنه من المحافظة على أملاك والده، بتسديده ما عليها من التزامات، مع توسيع نطاقها بشراء نصيب شقيقه وشقيقته، وبمثل هذا المثال القويم فليعمل العاملون!
صاحب السمو الملكي الأمير الجليل محمد علي.
أياديه على النهضة الزراعية
إن كل إنسان يعلم أن مصر الزراعية في حاجة على الدوام لإنهاض الزراعة: فالزراعة هي أساس ثروتها القومية. وأولئك الذين اطلعوا على جهود سمو الأمير في هذه الناحية الهامة، أو استمعوا لآرائه، يدركون أن سموه كان معلما منيرا يوجه بتعاليمه وإرشاداته إلى السبل التي تكفل تحقيق هذه النهضة المنشودة. والمقربون إلى سموه يحدثونك عن دوام تنقلاته إلى ضيعاته الزراعية في متعدد القرى من ريف مصر، فلم يكن يمر شهر إلا ويمضي منه جانبا كبيرا بين المزارعين، مشرفا على سير الأعمال الجارية، متعهدا شئون موظفيه وعماله، ومستأجري أراضيه، وذلك فضلا عن جهوده في الجمعية الزراعية منذ زهاء 40 سنة التي تولى رئاستها بعد المغفور له ساكن الجنان السلطان حسين كامل، وسيأتي فيما بعد تفصيل جهوده في توسيع نطاقها؛ مما جعل نفعها أعم، بحسن توجيهاته، وبما كفل للبلاد هذه النهضة الزراعية الزاهرة، التي يعود إليه نصيب كبير من فضلها، بدوام ترقيته للشئون الزراعية، وعنايته بتقدمها؛ الأمر الذي أسفر في النهاية عن أعظم الآثار في الحياة الزراعية المصرية.
الفصل الثالث
أفضال الأمير عمر طوسون على التاريخ المصري
مؤرخ القومية المصرية
أولع سمو الأمير العظيم عمر طوسون بالتاريخ منذ أيام الصبا والشباب، فلم ينقطع يوما عن البحث في نفائس المؤلفات التي كتبها الأفراد أو الجماعات التي يعنيها الوقوف على حقائق الأمم، في مختلف الأقطار متتبعين في ذلك ما خلفه الأقدمون من آثار!
ودفعه غرامه بالكشف عن النواحي الخفية من تاريخنا القومي إلى أن يقتني مكتبة عامرة بالكتب الفريدة، والمراجع النادرة. ولم يكن يمر يوم دون أن ينفق منه سموه شطرا كبيرا باحثا أو معلقا، على سفر من هذه الأسفار التي تحتشد بالبينات الرائعات عن أمجادنا القومية. وقد وقف سموه بدوام بحثه وتنقيبه على جوانب العزة والمجد في تاريخنا؛ فكشف عنها، وأضاء بثاقب بصيرته ظلماتها، التي كان العلماء - قبل سموه - يتخبطون فيها، ويجهلون أوجه الصواب منها. وقد أشربت روحه العالية بالغيرة المتقدة على تراثنا من هذا التاريخ، مع الاستمساك بالحقائق الثابتة - مهما كان وضعها - لأن هدف سموه كان إقرار الحق، بوضع الأمور في نصابها؛ وبذلك كان في كل أفضاله التاريخية مثالا للنزاهة والصدق وعنوانا على الجد والإخلاص!
وهكذا يستطيع كل مصري، أن يطلق على الأمير عمر لقب «مؤرخ القومية المصرية» بحق. وبذلك يصح فيه قول الشاعر:
خدم التاريخ وليس أشرف عنده
من أن يسمى خادما لبلاده!
استقلال رأيه أبرز صفاته
ومن ينظر في مؤلفات الأمير عمر التاريخية - التي أربى عددها على 39 مؤلفا - يجد تلك الآثار الحميدة ناطقة في أجلى بيان، بما كان لسموه من استقلال الرأي وأصالته كمؤرخ، مع صادق الخبرة، والبعد عن الأهواء، وكمال الدراية التي يعز نظيرها بين كل من تصدوا لتناول شئون التاريخ بالبحث والتسجيل، ولا بدع في ذلك فمن كان على مثال سموه (ورث السيادة كابرا عن كابر) لا بد أن تستهويه الحقيقة فيذكرها مجردة لوجه التاريخ . ولا غرابة في أن سموه بفطرته السليمة، ومبادئه القويمة، قد اضطلع بأمانة التاريخ؛ فكان الصدق ألزم صفاته وأجلى آياته!
ومن هنا كانت الهيئات العالمية في مختلف الأمم تتلقف آثاره التاريخية بالشغف الزائد، والشوق العظيم؛ فتقف فيها على الدقائق التي لا يمتري فيها اثنان، في بليغ بيان وفصيح برهان؛ لأنه كان موضحا للحقائق، مبرزا معالمها، منيرا خفاياها؛ لتبدو جلية للعيان كما تبدو الشمس المشرقة ساطعة في كبد السماء!
إن كل هذه الفضائل التي اقترنت بصراحة المؤرخ الأمير، وجماع هذه المواهب والصفات التي عرف بها، كانت تبلغ من قلوب الناس - المنتفعين بالآثار الطلية التي سجل فيها سموه مفاخر تاريخنا القومي ما تبلغه عظمة الحقائق التي يقررها، وروعة الأساليب التي يؤديها بها، بما جعل مفعولها نافذا، وأثرها على العقول وفي الصدور قويا بارزا. وهذا وحده هو غاية الرفعة والجلال، ونهاية ما تصبو إليه نفوس عظماء الرجال من مراتب العزة والكمال!
سموه حجة للمؤرخين
وإن من يطالع مؤلفات الأمير عمر التاريخية العديدة، يجدها جميعا تتصل بالحقبة التي قطعتها مصر في مراحل التقدم ومعارج الرقي، منذ ولي أمرها المغفور له محمد علي باشا الكبير، ومن خلفوه من الولاة، مع بعض كتب عن الصلات الوثيقة التي تربط بين شطري النيل رباطا لا تتقطع أوصاله. والأمير في تلك النواحي التي خصص لها عنايته كباحث كان يعتبر حجة، لا ينازعه مكانته العلمية فيها منازع - في الشرق أو الغرب - ومن هنا كان رجال التاريخ يعدونه المرجع الأمين لهم، فإذا أعياهم الاهتداء إلى وجه الصواب في إحدى مسائل التاريخ المصري تكون إرشاداته وآراؤه هي وحدها المصدر الذي يلهمهم حقيقتها بعيدا عن كل مظنة أو خطأ قد يقعون فيه إذا لم يرجعوا إليه في أبحاثهم!
دعايته لمصر في مؤلفاته
وكان الأمير عالما بأن هذه الناحية التي تعرض لتناولها في تاريخنا في حاجة لمن يكشف عنها؛ ولذلك فقد أسدى إلى تاريخ مصر والسودان، ونهضتهما العسكرية والبحرية، وفتوحات ولاتها التي امتدت إلى أبواب استانبول ومجاهل بلاد الحبشة خدمات لا تقدر؛ إذ لولاه لظلت هذه الأمجاد التي نفاخر بها مجهولة في طوايا هذا التاريخ، تكتنفها الظلمات من جهل العالمين بها، في حين أنها في طليعة نفائسنا ومقدمة مفاخرنا القومية!
وكان سموه يفسر التاريخ تفسيرا صحيحا، فهو حين يتناول ذكر موقعة من المواقع، أو يعرض لبيان حالة البلاد الاجتماعية في زمن ما، لا يعنيه سرد الحوادث، إلا بمثل ما يعنيه ذكر النتائج التي أسفرت عنها؛ ولهذا كان يؤمن بأن تاريخنا القومي ليس مجرد روايات وحوادث، أو ذكر أشخاص، وإنما هو يصور مرحلة من مراحل التقدم العمراني في عصر مضى، وهو يتوخى أن يكون لمصر في هذا التاريخ، أعظم دعاية أمام أمم الدنيا بأسرها.
أسماء مؤلفاته الفرنسية
ونكتفي بعد هذا العرض بذكر مؤلفاته الفرنسية، ولها أصل بالعربية أيضا، وأسماؤها تغني عن الإفاضة في شرح ما تضمنته من المعلومات العظيمة، وما تحتويه في تضاعيف صفحاتها من المباحث الهامة التي تناقلتها أندية العالم بمزيد العناية؛ وهي:
أولا:
تاريخ أفرع النيل القديمة (جزءان).
ثانيا:
تاريخ النيل.
ثالثا:
مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن.
رابعا:
جغرافية مصر في عهد العرب.
خامسا:
سليا وأديرتها (مذكرات عن صحراء ليبيا).
سادسا:
فتح مصر «لابن الحكم».
سابعا:
وصف فنار الإسكندرية.
ثامنا:
مذكرة عن عمود السواري في سنة 1843.
تاسعا:
المسألة السودانية.
عاشرا:
وادي النطرون.
حادي عشر:
الإسكندرية في سنة 1868.
أسماء مؤلفاته العربية
أما مؤلفات سمو الأمير عمر باللغة العربية ولم تترجم إلى اللغات الأجنبية، فهي تتسم بسداد الرأي، وبالرغبة في التوجيه إلى تحقيق الإصلاح، وجلاء الحقائق في أسلوب مشرق مشوق خلاب، والحق يقال أن مؤلفاته تزين المكتبة المصرية؛ وهي:
أولا:
كتاب «خط الاستواء» (ثلاثة أجزاء).
ثانيا:
كتاب «البعثات العلمية» في عهد محمد علي باشا وعهدي عباس الأول وسعيد باشا.
ثالثا:
كتاب «الصنائع والمدارس الحربية» في عهد محمد علي باشا.
رابعا:
كتاب «11 يوليو سنة 1882».
خامسا:
صفحة من تاريخ مصر والجيش البري والبحري من عهد محمد علي باشا.
سادسا:
أعمال الجيش المصري في المكسيك.
سابعا:
مذكرة عن الوقف.
ثامنا:
كلمات في سبيل مصر.
تاسعا:
مذكرة بما صدر عنا منذ فجر النهضة الوطنية.
عاشرا:
تاريخ خليج الإسكندرية وترعة المحمودية.
حادي عشر:
المسألة السودانية.
ثاني عشر:
وادي النطرون ورهبانه وأديرته وتاريخ البطاركة.
ثالث عشر:
مذكرتان: «لبيب باشا الشاهد» عن أعمال الجيش المصري في السودان.
رابع عشر:
مذكرة: «ضحايا مصر في السودان وخفايا السياسة الإنجليزية»، وهذان مطبوعان على نفقة سموه.
خامس عشر:
الأطلس التاريخي الجغرافي لمصر السفلى منذ الفتح الإسلامي للآن.
سادس عشر:
فتح دارفور.
سابع عشر:
مصر والسودان.
ثامن عشر:
مذكرة عن مسألة السودان بين مصر وإنجلترا.
وسمو الأمير عمر في كل هذه المؤلفات كان يضرب بسهم وافر في العلوم التاريخية، حتى غدت مهوى اطلاع القدماء والمحدثين من محبي التاريخ. وأذكر - على سبيل المثال لا الحصر - أني تناولت بالعرض والتنويه بعض هذه المؤلفات في الصحف. وأنشر فيما يلي إحدى هذه الآثار للذكرى والتاريخ:
مؤلفان ثمينان (1)
تاريخ خليج الإسكندرية وترعة المحمودية. (2)
مذكرة بما صدر عنا.
منذ فجر النهضة الوطنية المصرية (1918-1928)
لصاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون
عرض وتحليل، بقلم قليني فهمي باشا
ليس من شك في أن تاريخ الأمم العظيمة هو صفحة لجهاد مفكريها وعظمائها. وأعلام البيان فيها هم الذين هيأتهم مواهبهم لأن يكونوا حلقة الاتصال بين ماضي الأمم وحاضرها؛ لأنهم يصنعون بثمرات قرائحهم المرآة المجلوة التي يرى فيها أبناء الغد ورجال المستقبل أعمال هؤلاء العظماء، ويستشفون من المناظر التي تنعكس على صفحتها اللامعة ما يرتقب بلادهم من مجد باهر ورقي زاهر.
وصاحب السمو الأمير الجليل «عمر طوسون» يعتبر في مقدمة المفكرين الذين تتسم آراؤهم بميسم الإقناع؛ فهو إذا أدلى برأي في المشكلات الاجتماعية، أو المعضلات الاقتصادية التي تكابدها البلاد، جاءت آراؤه في مجموعها مثال الصواب، والحجة الثابتة، وهو إذا تعرض لبحث من البحوث التاريخية فهو يتوفر عليه فيقتله تمحيصا وتنقيبا؛ فيجيء حافلا بالطلي الجلي من الآراء الناضجة، والرائع الناصع من الأفكار الشائقة.
ولسمو الأمير عمر - حفظه الله - جهود موفقة في التاريخ المصري، يعجز البيان عن توفيتها حقها من التقدير والثناء. والتفاته الكريم إلى الجانب القومي منه خليق بكل تمجيد؛ فهو في حرصه على الكشف عن الأمجاد العظيمة التي ينطوي عليها تاريخنا، وكلفه بإذاعتها بين الناس، للاستفادة منها، يعتبر فريدا بين المؤرخين. وأكثر المواضيع التي يتناولها بالبحث الدقيق في هذا التاريخ هي دائما بنت الحقائق الراسخة ووليدة البحوث الصحيحة، التي يحرص سموه فيها حرصا بالغا على أمانة التاريخ، ويتوخى من نشرها تشريف سمعة الوطن، وإعلاء قدر حكامه ورجاله العاملين بين أمم العالم.
وقد تفضل سموه، فأهدى إلى قراء العربية، في الأسابيع الأخيرة مؤلفين ثمينين: أحدهما عن «تاريخ خليج الإسكندرية القديم وترعة المحمودية». وثانيهما هو «مذكرة بما صدر عنا منذ فجر النهضة الوطنية المصرية» عن خلاصة للحوادث التي وقعت إبان سنتي (1918-1928م).
والكتاب الأول - كما يرى المطالعون - يتعلق بتاريخ مرفق عظيم، من مرافق البلاد الحيوية. وقد تعقب فيه سمو الأمير المؤرخ خليج الإسكندرية والتطورات التي لحقت به إلى أن صار ترعة، وأتى على أوصافه العامة والخاصة، وتقصى في هذا السرد البديع جانبا من تاريخ الإسكندر الأكبر عندما أنشأ مدينة الإسكندرية، وما بذله من الجهود لإيجاد الوسائل لتزويد الإسكندرية بالماء الصالح للشرب. ثم ألحق سموه بهذا البحث الوثائق التاريخية الموجودة بالمحفوظات المصرية عن حفر ترعة المحمودية، موضحا كل ذلك بالصور الجميلة والرسوم المفصلة؛ مع الأسلوب المتدفق المشوق الخلاب الذي يغري الإنسان على المطالعة والاستفادة من كل ما يتصل بهذه البحوث من دروس وعبر.
حضرة صاحب العطوفة قليني باشا فهمي.
وأما الكتاب الثاني، فهو يحوي صفحات من جهود سمو الأمير عمر؛ في الحركة الوطنية. والنهضة المصرية التي انبثقت أنوارها، واندلع أوارها، بعد أن وضعت الحرب العالمية الماضية أوزارها، نهضة خليقة بأن يوليها المؤرخون ما هي جديرة به من اهتمام ورعاية. وقد تناول الأمير تاريخ هذه النهضة منذ تأليف الوفد المصري، الذي وضع برنامجه على أساس المطالبة بحقوق البلاد والعمل على إعادة استقلالها، وإلغاء الحماية التي كانت مضروبة عليها. وأحاط بالظروف والفكرة التي أنشأت هذا الوفد، وما كان لسموه من آراء سديدة في توجيه هذا الوفد، ومساهمته الثمينة في الدعوة إلى تضافر الجهود واتحاد القوى للظفر بالأغراض السامية المنشودة. وقد أتى سموه على ما نشره من احتجاجات على مصادرة الحريات، وما أذاعه من بيانات لتأييد النهضة الوطنية، وأحاديث أفضى بها سموه لطائفة من كبار الصحفيين والمشتغلين بالحركة الفكرية والوطنية؛ مما له أبلغ الأثر في تاريخ هذه الحركة القومية؛ مما يعرف منه الجميع الصفحات النادرة في نهضتهم، وما ساهم به سموه فيها، وهو الأمير الديمقراطي النزعة، والشعبي المبدأ.
هذان هما المؤلفان القيمان اللذان أهداهما سمو الأمير العلامة المفكر عمر طوسون لقراء الضاد. ولا ريب في أنهما إلى جانب تلك المجموعة الضخمة العظيمة من مؤلفاته الفريدة، يزينان موائد الكتب الحديثة التاريخية في الشرق كله، أدام الله سموه ذخرا للعلم والأدب والبلاد.
من سمو الأمير الجليل عمر طوسون
كتاب شكر وتقدير
وكان سموه - رحمه الله - يقدر كل التقدير من ينتبه إلى مؤلفاته القيمة، فما كاد يطلع على ما كتبناه حتى تفضل فبعث إلي بالكتاب الكريم التالي، وهو ينطق من تلقاء نفسه بعاطفته السامية:
حضرة صاحب السعادة قليني فهمي باشا
وصل إلينا خطاب سعادتكم المؤرخ 24 مايو سنة 1942 ومعه نسختان من جريدة «التيمس المصري الغراء». وإننا نشكر سعادتكم أجزل الشكر على ما دون بهذه الصحيفة القيمة، وما تضمنته كلمتكم الطيبة التي أبديتموها خاصة بمؤلفينا: «تاريخ خليج الإسكندرية القديم وترعة المحمودية، ومذكرة بما صدر عنا منذ فجر الحركة الوطنية المصرية من سنة 1918 إلى سنة 1928». ومع تقديرنا لكلمتكم البليغة وشكرنا لشخصكم الكريم، أرجو أن يديم الله عليكم نعمة الصحة ويبلغكم أقصى ما ترجونه من سعادة وهناءة.
واقبلوا مزيد سلامنا.
عمر طوسون
27 مايو سنة 1942
الفصل الرابع
الأمير عمر ومحاضراته الثقافية
حضرة صاحب السمو المغفور له الأمير عمر طوسون.
الهيئات العلمية التي كان يشترك فيها
كان للأمير عمر طوسون مكانة رفيعة لدى الجمعيات الأدبية، ودوائر نشر الثقافة والعلوم في مختلف أنحاء الشرق. وكان سموه تربطه بأعضائها من رجال الأدب والعلم، ومن أعلام الثقافة والتاريخ، وشائج قوية، وكان على الدوام يعمل على إمداد العلماء بكل ما يودون الوقوف عليه في مسألة من المسائل التي يطلب إليه إبداء الرأي فيها وجلاء حقائقها؛ ولذلك كان سموه مشتركا في مختلف الهيئات العلمية العديدة، ونذكر منها:
أولا:
المجمع العلمي المصري.
ثانيا:
الجمعية الجغرافية الملكية.
ثالثا:
المجمع العلمي العربي (في دمشق).
رابعا:
جمعية الآثار العربية.
خامسا:
جمعية الآثار القبطية.
وجهود سموه في كل جمعية منها واضحة، تتحدث بفضله وسداد آرائه، وعالي تفكيره في الفن الذي اختصت به.
أشهر محاضراته فيها
وللدلالة على هذه الجهود، ولكي يستطيع القارئ أن يكون صورة عنها، نذكر فيما يلي بعض ما تناوله من الموضوعات الهامة في محاضراته العامة التي ألقاها على صفوة المتعلمين ورجال الأدب والفنون، وأهمها:
أولا:
محاضراته التاريخية الضافية التي سرد فيها بأسلوب مشوق جميل، وبعرض قصصي رائع، «نهاية المماليك». وقد كشف فيها سموه عن حقائق التاريخ التي لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها.
ثانيا:
رحلة إسكندر الأكبر في واحة «جوبتير».
ثالثا:
طوابي الإسكندرية وضواحيها.
رابعا:
الاستيلاء على سيوة.
خامسا:
صحراء مصر.
سادسا:
قصر القطاجي.
وحسبنا ذكر عنوان كل محاضرة لتغني الكاتب والقارئ معا عن الإفاضة في تبيان جلالها، وتفصيل ما تنطوي عليه من المعلومات العظيمة.
الشيء بالشيء يذكر!
وكان سموه حريصا على وضع الحقائق في نصابها، لا يرى خطأ يرد في مؤلف أو أمرا يتصل بالبحث إلا ويعمل على أن تكون الأمانة التاريخية في مكانها الصحيح. وقد ذكر لنا أحد آبائنا من أصحاب النيافة المطارنة، أن سموه كان قد لاحظ أن اللوحة الرخامية الموجودة في أحد الجدران الداخلية للكنيسة المرقسية بها خطأ تاريخي؛ إذ جاء فيها: «إن المرقسية تجددت في عهد خلافة الأنبا بطرس البطريرك التاسع بعد المائة سنة 1520 للشهداء.»
صاحب الغبطة المعظم الأنبا مكاريوس بابا وبطريرك الأقباط.
ولما كان سموه يعلم أن سنة 1520 للشهداء تقع في مدة البطريرك الثامن بعد المائة، وهو الأنبا «مرقص الثامن»، ولا تقع في عهد التاسع بعد المائة، فقد كتب سموه كتابا ضافيا في هذا الشأن إلى صاحب النيافة الأنبا يوساب «قائمقام البطريرك في ذاك الوقت»، يقول فيه بعد أن أوفد سموه مندوبا من قبله ليتحرى الحقيقة عن هذه اللوحة، وأن المندوب حمل إليه بدوره رواية جعلته أيضا في شك من صحتها؛ نقول جاء في كتابه ما يأتي: «المعلوم لدينا أن الأنبا بطرس التاسع بعد المائة، لم يكن من الإسكندرية، وإنما كان من ناحية الجاولي التابعة «لمنفلوط» مديرية أسيوط، ومدة بطركيته كانت من (16 كيهك 1256-28 برمهات سنة 1568)، فلا ندري من من البطاركة المقصود في هذه العبارة؟ فإذا صححتموها غبطتكم أسديتم إلى التاريخ خدمة جلى، ونكون شاكرين لكم إذا تفضلتم بتصحيحها.»
ولم يكد نيافة الأنبا يوساب يطلع على كتاب سمو الأمير عمر، ويجري فيما تضمنه تحقيقا، حتى كتب إلى سموه شاكرا، مقرا إياه على رأيه، وفيما يلي نص الخطاب تنطق سطوره بالفضل لذويه:
بطريركية الأقباط الأرثوذكس
القاهرة في 14 طوبة سنة 1659 / 21 يناير سنة 1943
حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون
نقدم لسموكم أطيب التحية وأجزل الإجلال والسلام، ونضرع إلى الله تعالى أن تكونوا، سموكم وحضرتي صاحبي المجد النبيلين نجليكم الكريمين، في أتم صحة وأكمل هناء.
وبعد، لقد تلقينا بيد الإجلال كتاب سموكم الكريم بشأن اللوحة الرخامية الموجودة على الباب الداخلي لبطريركية الإسكندرية، ونرجو أن نستميح سموكم أولا في تأخرنا عن الرد لأسباب خارجة عن إرادتنا، ثم نعرض المعلومات التي تحصلنا عليها.
لما استتب الأمن في البلاد، واستقر الحكم لساكن الجنان جدكم العظيم محمد علي باشا مؤسس العائلة المالكة الكريمة، وتولى البابا بطرس السابع الشهير بالجاولي وهو البطريرك التاسع بعد المائة في يوم الأحد 16 كيهك سنة 1526ش (25 ديسمبر سنة 1809) قام بزيارة الإسكندرية، ولا شك في أن هذا البابا عمر كنيسة ودير القديس مرقس الإنجيلي بها كما هو مذكور في جزل اللوحة الرخامية الذي عثر عليه «كما علمنا من مكاتبة جناب وكيل البطريركية بإسكندرية» في جدران المدرسة المرقسية عند وضع أساس بنائها، ويغلب على الظن أن هذا التجديد حصل في سنة 1530ش. أما التاريخ المكتوب على اللوحة الرخامية - وهو سنة 1530 - فهو خطأ وقع فيه الحفار؛ حيث خلط بين رقم 2 ورقم 3، وستتخذ الإجراءات اللازمة لتصويب هذا التاريخ.
هذا وإننا مع تقديرنا وإكبارنا لفضل سموكم على التاريخ، نرفع أكف الضراعة إلى الله أن يبقي سموكم وينعم على البلاد بدوام سموكم خيرا ونعمة وبركة؛ إنه السميع المجيب. وتفضلوا يا صاحب السمو بقبول عظيم الإجلال.
قائم مقام البطريرك يوساب
مطران كرسي جرجا
علاقاته بمطارنة وبطاركة القبط
وكان سموه - رحمه الله - يجل من صميم قلبه مطارنة وبطاركة القبط، وكان له بتاريخهم من أقدم العصور إلمام عظيم، وكانت صلاته بهم على خير ما تكون، وكان له بصاحب الغبطة قداسة الأنبا مكاريوس الثالث - بابا وبطريرك الأقباط الحالي - معرفة وثيقة. ومن سوء الحظ أن المنية قد عاجلت سموه قبل انتخاب غبطته - أطال الله في حياته - بأيام قلائل؛ فكان حزن الجميع عليه شاملا عاما.
الفصل الخامس
فضل الأمير عمر طوسون على النهضات الوطنية
حضرة صاحب السمو الأمير سعيد طوسون النجل الأكبر لسمو الأمير عمر طوسون.
النهضات الوطنية في كل الأمم، وفي جميع أدوار التاريخ القديم والحديث، والحركات الاستقلالية في جميع الشعوب، لم تقم إلا على أساس من إرشادات الحكماء من أهل الغيرة الوطنية، الذين أشربت نفوسهم بروح الحرية إلى جانب نهوضها على كواهل الشباب ورجال التضحية، الذين يغذونها بالدماء الذكية، ويبذلون في سبيلها كل غال وثمين!
وفضل الأمير عمر طوسون على النهضة الوطنية المصرية معروف يذكره كل إنسان؛ فقد دفعته مبادئه السامية ورجولته الكاملة إلى تأييد أعلامها منذ مهدها، فساهم في النهضة منذ كانت فكرة، وظل يواليها بالتشجيع في كل مراحلها.
فضله في تأليف الوفد المصري
كان الأمير عمر المصري الأول الذي فكر في تأليف الوفد؛ إذ كان في طليعة من أشاروا على سعد زغلول باشا ورفاقه بإيفاد مندوبين مصريين إلى مؤتمر الصلح الذي يعقد في باريس، عقب أن وضعت الحرب الماضية أوزارها لتوضيح مطالب مصر، والإفصاح عن عدالة قضيتها وحقها في الحرية والاستقلال وتقرير المصير!
المغفور له الزعيم العظيم سعد زغلول باشا.
وقد استن سموه بهذا العمل الجليل سنة حميدة، وخلق تقليدا لم يكن معروفا من قبل في شئون مصر العامة؛ إذ كان المتبع أن أمراء البيت العلوي يكونون بمنأى عن مثل هذه الحركات، فلما اقتحم سموه غمار هذه المعركة عمل على تغذية نهضة البلاد الوطنية بالقوة التي تحتاجها، وضرب بشجاعته مثلا أعلى للجميع، وكان له الفضل العميم في ضم صوت الأمراء إلى أصوات أبناء الشعب في المطالبة بالاستقلال!
ولم يخش الأمير عمر ما كان يخشاه الكثيرون حين نزل إلى هذا الميدان، بل خاض المعمعة في جرأة معدومة النظير، ثابتا كالجبل، مؤمنا لا تلين له قناة، مضحيا بالمال في مناصرته للحركة الوطنية، ضاربا أعظم الأمثال في الثبات على الرأي، منتهزا للفرص في إسداء النصائح وإبداء الأفكار التي فيها تفريج للعقد أو حل للمشكلات!
كان صديق الجميع!
وكان سمو الأمير عمر صديقا للجميع، يعتبره كل الزعماء زعيمهم الأمين. فكانت كلمته لدى كل الأحزاب مسموعة، وآراؤه لدى رجال السياسة من مختلف الألوان مطاعة. وسبب ذلك فسره الأستاذ فكري أباظة في كلمته التي نشرتها صحيفة «المصور» الغراء، حين قال:
كان الأمير عمر «السياسي المصري» ذا المكانة والكلمة النافذة، الذي ظل دائما أبدا بين «الأحزاب» وبين العناصر السياسية المختلفة «على الحياد»! فكان لا يجامل ولا يتحيز. فإذا ما تهددت سلامة البلد بالخلاف قام لإصلاح ذات البين، وأجرى حكمه على المختلفين! وفقده كان فقدا لهذا الصنف من الرجال الذين ترعى الأحزاب جانبهم وتخضع لرأيهم ووساطتهم، وتسوي مشاكلها عند أبوابهم!
نظرة إلى الماضي
وحين ارتفع صوت المغفور له مصطفى كامل باشا باسم مصر وحقها في الحرية والاستقلال، كان ساكن الجنان المغفور له عمر طوسون باشا في طليعة مؤيديه. وكانت صداقتهما القوية من مشجعات زعيم الحزب الوطني على السير في طريق جهاده، ولا سيما فيما بين عامي 1904-1908. وظل سموه قدوة للوطنيين في التضحية من أجل الوطن، والذود عن قضيته.
المغفور له مصطفى كامل باشا.
وقد ذكرت مجلة الشعلة حادثة انفردت بها، تناولت فيها موقفا عظيما للأمير العظيم مع معالي الأستاذ غنام بك - وزير التجارة والصناعة الحالي - الذي كان لا يزال طالبا في سنة 1922، وقت حدوثها؛ قالت فيها ما يلي: «كان غنام ثوريا - من يومه - فكان يكتب في الصحف عن الأحكام العرفية، وما أصاب مصر من أضرار جسيمة خلال الحرب الماضية. وكان يستعد لإصدار كتاب «مصر في ميدان التضحية»، وكان يجمع له المواد والوثائق، فكتب إلى «باشمعاون دائرة الأمير عمر» يطلب تفصيلات عن أرض «أبو قير» التي يملكها سموه، والتي وضعت السلطة العسكرية يدها عليها، فتلقى خطابا لمقابلة سموه شخصيا في فندق شبرد، وتشرف بالمقابلة شخصيا مدة استغرقت ساعتين كاملتين، ثم أصدر سموه أمره بوضع كل المستندات الخاصة بالموضوع تحت تصرفه؛ لأنه - رحمه الله - كان يرى فيها خدمة لقضية البلاد!»
وهذه القصة الصغيرة التي ذكرتها هذه الصحيفة توضح للجميع كيف كان يهتم كل الاهتمام بالقضية المصرية، ويولي كل أمر يتصل بها بالغ العناية.
الفصل السادس
نخوة الأمير عمر طوسون
مساعداته للأتراك في حربي طرابلس والبلقان وفضله العميم على الحبشة.
الأمير عمر والحزب الوطني
أعلن الدستور العثماني عام 1908 في تركيا. وقوبل إعلانه في مصر بمظاهر الفرح العام والسرور العظيم.
وكانت مصر في ذلك الزمن ولاية تابعة للدولة العثمانية، تتمتع باستقلالها الذاتي؛ أي توليها شئونها الداخلية. وكان الحزب الوطني قبل ذلك الوقت بزعامة مؤسسه المغفور له «مصطفى كامل باشا» في أوج قوته، وكان الوطنيون يطالبون بإعادة الدستور (دستور 1883)، وينشرون دعوتهم - في الداخل والخارج - بكل الوسائل؛ فكانوا يعقدون المؤتمرات في مصر وأوروبا على السواء، لتنظيم حركتهم، وتوكيد حقهم في حكم أنفسهم بأنفسهم. وكانت حماستهم تحملهم على الدوام على مناهضة أساليب السياسة الإنجليزية في مصر، في ذلك الأوان!
والسبب في ذلك كله يعود إلى تصريح أفضى به وزير الخارجية في البرلمان البريطاني ذكر فيه استعداد إنجلترا لأن تعيد الدستور المصري، إذا التمسه المصريون منها - أي من بريطانيا - فأغضب هذا التصريح الشعب المصري؛ لأنه كان يعطي في معناه سلطة غير مشروعة لها على مصر؛ هي سلطة الوصاية! وحفزهم هذا وضاعف جهودهم بطلب الدستور من الخديوي دون سواه، وهو ولي الأمر في ذاك العهد «سمو الخديوي عباس حلمي».
آخر صورة لفقيد الشرق المغفور له الأمير عمر طوسون.
وفي المدة التي تقع بين عامي 1904-1908، كان للأمير عمر - رحمه الله - أياد بيض على هذه الحركة؛ فقد كان من المؤيدين لكل دعوة وطنية، وكان يرى بفطرته السليمة، أن كل حركة وطنية خليقة بتشجيعه وعطفه الأدبي والمادي، ما دامت غايتها استقلال وادي النيل. وكان هذا على الدوام هو اعتقاده الراسخ في كل الحركات التي ترمي إلى التحرير؛ لأنه كان غير ضنين على كل نهضة وطنية بالتشجيع بالمال والجاه، وفي السر والعلانية!
معاونته في الحرب الطرابلسية
ولما نشبت الحرب الطرابلسية، وخاضت غمارها تركيا مع سكان برقة وطرابلس الغرب ضد إيطاليا المعتدية، سارع الأمير عمر طوسون إلى الإهابة بالمصريين لمد يد المساعدة إلى إخوانهم العرب في القطر الذي يجاورهم، ورأس سموه اللجنة التي ألفت لهذا الغرض، واشترك معه فيها «صاحب السمو الملكي الأمير الجليل محمد علي»؛ لجمع التبرعات وإرسال البعوث الطبية إلى المجاهدين. وكانت مشاعر المصريين على بكرة أبيهم متأثرة بفظاعة ما تقترفه الدولة المعتدية من صنوف القسوة؛ فتجلت أريحيتها، وكانت نخوة الأمير عمر تهديها السبيل نحو ما يجب عمله. وحين تبرع سموه من جيبه الخاص بعشرة آلاف جنيه «كدفعة أولى» زادها إلى الضعف فيما أعقب ذلك من الوقت. كانت هذه اليد الكريمة القدوة الصالحة للخيرين من أهل البر والمروءة. وهكذا كانت مساعدته في الحرب الطرابلسية سنة 1910 خير معوان للمنافحين ضد العدوان، ولولا إسعافه لهم لما أمكنهم الاستمرار في الجهاد شهرا من الزمان!
جمعية الهلال الأحمر
وكان من نتائج هذه الحركة المباركة التي يعود فضلها على سموه، وبوضعه جاهه العظيم واسمه الكريم متوجا لها، أن تألفت في مصر لأول مرة في التاريخ جمعية الهلال الأحمر المصري التي أتشرف بتقلدي منصب وكالتها منذ عهد طويل. وقد أسسها أمراء البيت المالك الكرام وعلى رأسهم صاحب السمو الأمير محمد علي وصاحب السمو الأمير يوسف كمال - أطال الله حياتهما - والمغفور له الأمير عمر طوسون. وكان نشاط سموه في هذا الصدد ملحوظا على الدوام، وموضع الثناء والاستحسان، حتى تألفت للعمل البار النافع، ذي الصبغة الإنسانية الرحيمة، الذي تضطلع به اللجان تعاونها في الأقاليم والمدن، وفي مديريات القطر جميعه، فتردد اسم الأمير عمر على كل لسان في جميع أنحاء الشرق والعالم الإسلامي قاطبة.
ويكفي أن نذكر أنه بهمة الأميرين جمعت مبالغ كبيرة لم تكن في الحسبان، وأمكن إرسال أربع بعثات طبية إلى ميادين القتال في طرابلس الغرب. ولا يزال بعض أعضائها أحياء، ومن هؤلاء صاحب السعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا، والدكتور نصر بك فريد، والدكتور المرحوم محمد كمال بك - حكيمباشي مستشفى كفر الشيخ سابقا - الذي توفي في أثناء طبع هذا الكتاب. كما كان للأمير عمر أدوار أخرى في تأجيج المشاعر، وتغذية هذا النضال الوطني، منه إيفاد الضباط المدربين، وإمدادهم بالإرشادات الثمينة، وغير ذلك مما نكتفي منه بهذه الإشارة العابرة.
خدماته للإنسانية في حرب البلقان
ولما نشبت الحرب البلقانية ضد الدولة العثمانية، ضاعف الأمير عمر جهوده العظيمة في جمع التبرعات، فكان في كل خطوة أسخى من السحاب. وتجلت مآثره ومكارمه، بما تبرع به من حر ماله، وما جمعه من أبناء الوطن، حتى اجتمع من التبرعات زهاء 300 ألف جنيه. ونظم البعوث الطبية لجمعية الهلال الأحمر - وكنت مندوبها في استانبول ونائبا عنها لدى السلطان رشاد - وكان لهذه البعوث فضل عميم في مواساة الجرحى والمصابين.
المغفور له السلطان رشاد.
وأذكر من أطبائها في ذلك الوقت الدكتور محجوب بك ثابت. ولا تحضر الكاتب مهما كانت ذاكرته قوية، صورة الخدمات الحافلة التي أداها الأمير عمر في هذه الفترة، بالتفصيل. وليس بين العبارات التي يجري بها القلم وصف لها أكثر من أنها كانت من معجزات الإرادة العالية التي يتصف بها هذا الأمير المبرور.
معاونته للحبشة في محنتها الأخيرة
ولما اعتدت الدولة الإيطالية، «الفاشستية» على حرمة الأراضي الحبشية، وهاجمت إيطاليا المدججة بالسلاح بلاد الحبشة العزلاء المسالمة؛ أهاب الأمير عمر طوسون بالمصريين، فلبوه مسرعين لمعاونة إخوانهم أهل الحبشة الذين نهضوا للدفاع عن وطنهم كراما مستشهدين في ساحة الشرف.
حضرة صاحب الجلالة الإمبراطور هيلاسلاسي.
وقد تألفت اللجنة الخاصة بالدار البطريركية بمساعدة الحبشة، وكان لسموه شرف رئاستها، واختير لسكرتيرتها حضرة الأستاذ الفاضل «حامد المليجي». وقد كان غبطة البطريرك الراحل المتنيح الأنبا يوأنس يشارك سموه في كل جهد يبذله لنجاح أعمال هذه اللجنة؛ مما يدل على أنه كان رسول رحمة للجميع، وليس يخفى على أحد ما كان يضحيه سموه من ماله ومن وقته الثمين في هذا المضمار الإنساني. وقد كان للجنة مساعدة الحبشة الفضل في إسداء الخير إلى أهل القطر الشقيق الذي تربطنا بهم أواصر وثيقة. وقد أرسلت اللجنة أربع بعثات طبية إلى ميادين القتال، كان على رأس إحداها صاحب السمو الأمير الجليل والضابط الباسل «إسماعيل داود» - أمد الله في عمره - وقد جمعت اللجنة أموالا عظيمة للحبشة فرجت كربتهم، ونفست عنهم الضيق الذي كان يشد على أعناقهم، وهم في وقت حرب حياة أو موت، مع عدو شديد، ومعتد أثيم لا يرحم أو يلين! •••
وما دام الشيء بالشيء يذكر! فليس هناك من يجهل فضل الأمير في مساعدة الدولة العثمانية حين اندلعت النيران، فحرقت ثلث مباني الآستانة؛ وما كان لدعوته البارة من الأثر الفعال في نفوس الوطنيين لمساعدة المنكوبين.
المتنيح الأنبا يوأنس بطريرك الأقباط الراحل.
كذلك فضله على المجاهدين في الحرب الريفية المراكشية، فضلا عما أسداه من ضروب المعاونات للأتراك الأبطال في أعقاب الحرب الماضية المنقضية، حين انتصر الحلفاء واقتطعوا كثيرا من الأراضي والولايات التركية، فقام المجاهدون الأحرار بقيادة «الغازي كمال أتاتورك» - رحمه الله - مؤسس تركيا الحديثة وأنصاره للنضال في سبيل بلادهم؛ على الرغم من قلة عددهم وضآلة عتادهم؛ فقد كان للأمير عمر فضل معاونتهم بالمال، ومعاضدة حركتهم الوطنية؛ مما سجل له بالفخر التليد والشرف المجيد. وإليه وحده يعود الفضل في فوزهم على اليونان.
الأمير عمر مفخرة أهل الشرق
والواقع أن كل هذه المآثر التي تجلت في أعمال الأمير العظيم عمر طوسون وفي أريحيته الباهرة التي تدفعه دائما للبذل والعطاء، قد أقامت لأهل الشرق أنصع الأدلة على أن يتضامنوا في الشدائد، وأن يجعلوا التعاون فيما بينهم مذهبا سياسيا يعتنقونه في إيمان لخيرهم؛ حتى يكونوا قوة لا يستهان بها أمام العالم الغربي.
وليس في الوجود من ينكر فضل هذا المبدأ القويم الذي أوجده ساكن الجنان الأمير عمر الكريم، في الذود عن حقوق الشرقيين، وفي حمل أمم العالم الأوروبي - ولا سيما ذات الأطماع الاستعمارية - على أن تحسب ألف حساب لغضب الشرقيين عامة؛ إذ لولا هذا المبدأ التعاوني الذي أحيا شعائره أميرنا وأجج عاطفة التحمس له في النفوس، وقوى روابطه في الصدور، لتخطفت ذئاب المستعمرين بلدان الشرق بلدا بعد أخرى لقمة سائغة، ولما استطاعت أن تهب للدفاع عن حياضها أمة منها بدون تلك المعاونة البارة التي كان يواليها بها أميرنا ويدعو أبناء الشرق وأهل العالم الإسلامي على أن يسخوا في معاضدة المجاهدين فيها، والعطف على المنكوبين منها.
وهذه النخوة التي ظلت شعار الأمير عمر، قد جعلت منه إماما يقتدي به الجميع، ومفخرة يفاخر بها المصريون في مضمار جلائل الأعمال.
ولا أزال أذكر كيف كان سموه يطوف بالمدن والأقاليم وعواصم المديريات؛ لنشر مذهبه السياسي الرحيم، حاثا على أن يعتصم به كل إنسان ويستمسك بعروته الوثقى، مناديا بأعلى صوته بتلك العبارة الذهبية الحكيمة: «إن من يعيش لنفسه فقط لا يستحق أن يولد!»
وكانت كل أمة - في الشرق أو الغرب على السواء - تجد في نخوة الأمير عمر يدا مواسية تأسو جراحها، إذا حلت بها نكبة، أو ألمت بها ملمة!
الفصل السابع
مآثر الأمير عمر طوسون على الجمعية الزراعية الملكية، وجهاده لتنشيط النهضة الزراعية
والصناعية
في الجمعية الزراعية الملكية
تأسست الجمعية الزراعية الملكية في سنة 1898. كان أول من يعود إليه الفضل في إنشائها المغفور له السلطان حسين كامل. ولكن في سنة 1932 اختير لرئاستها ساكن الجنان المغفور له الأمير عمر طوسون، وظل في هذا المنصب الرفيع طوال اثني عشر عاما إلى أن اختاره الله إلى جواره الكريم.
ساكن الجنان المغفور له السلطان حسين كامل.
رأي سموه بثاقب نظره أن الزراعة هي عماد ثروة البلاد، وأن الفلاح هو عماد هذه الزراعة؛ فعمل على النهوض بها، وامتدت عنايته فشمل الفلاح بالرعاية والعطف. وفي ذلك يقول صاحب السعادة فؤاد أباظة باشا - المدير العام للجمعية الزراعية - الذي تربطني به وبأعضاء الأسرة الأباظية الكرام صلات المودة والإخاء، وخدماتهم للبلاد معروفة، يقول - وحديثه هو اليقين: «كان سمو الأمير عمر شديد العناية بترقية الزراعة، شغوفا بها إلى أقصى حد، محبا لأهلها. فوصلت بذلك مزارعه من الخصب والنماء - بعد أن تعهدتها يده بالإصلاح والتعمير - إلى حد يدعو إلى الاغتباط.»
ويقول أيضا وهو يعدد مناقب سموه: «إنه قد أقام العلاقة بينه وبين المستأجرين لأراضيه على أساس التعاون، مع مراعاة صالح العمال والمستأجرين. وقد رأى بسديد فكره أن مساكن الريف في حاجة إلى التهذيب وكفالة الوسائل الصحية؛ فأنشأ قرى جديدة في مزارعه تتوافر فيها الشرائط الصحية، زودت بجميع المرافق التي جعلت منها بيئة اجتماعية صالحة: من مدارس، ومساجد، وحوانيت، وغيرها. ومنها كفر بساط وميت زنقر.
ومن أعماله أنه وضع لموظفي دائرته نظما تكفل راحتهم، واطمئنانهم في حياتهم، وعلى ذرياتهم بعد وفاتهم، فكان يرعاهم في شتى المناسبات، ويعمل على تيسير السبل لتثقيف أبنائهم، والإنفاق على النجباء منهم في مراحل تعليمهم.»
صاحب السعادة فؤاد أباظة باشا المدير العام للجمعية الزراعية الملكية.
أفضاله على الجمعية الزراعية
منذ أنشئت الجمعية الزراعية الملكية منذ أكثر من 46 سنة وسموه عضو فيها، وقد تقلد منصب وكالتها في سنة 1907، ثم تولى رئاستها 1932، خلفا لمؤسسها ساكن الجنان المغفور له السلطان حسين كامل، ونجله المغفور له الأمير كمال الدين - طيب الله ثراهما، وجعل مثواهما الجنة.
ولا ريب أن الجمعية الزراعية قد اتسع نطاقها، وتعددت خدماتها للبلاد في عهده وبهمة مديرها وأعضائها الكرام، بحسن توجيهات سمو الأمير عمر. وتمتاز هذه الفترة التي تولى فيها سموه رئاسة الجمعية بأنها فترة إصلاح وإنشاء وتجديد وتعمير مستمر.
وقد كانت عناية الأمير بالزراعة، تعادل اهتمامه بالصناعة. وهذه المباني الفخمة والقصور الشامخة، ودور المعرض المصري للصناعات القائمة على أرض الجزيرة الجميلة ناطقة بأفضاله؛ فقد كان سموه مشجعا للصناعة، منشطا للصناع، دائم الالتفات لكل ما يكفل لهم التقدم المطرد؛ مما جعل لعهده في رياسة الجمعية أمجد مكان وأكبر أثر.
مبادئه في الجمعية وصلاته بأعضائها
ومن الأجدى أن نسجل هنا ما قاله سعادة فؤاد أباظة باشا عن هذه الناحية؛ إذ يقول: «لقد خطت الجمعية في عهد سمو الأمير عمر - رحمه الله - خطوات واسعة نحو التقدم، بكريم إرشاداته؛ فنمت ماليتها، وعظم نشاطها، واتسعت مباحثها الفنية؛ من كيميائية ونباتية وحشرية وتربية حيوان، وزادت تجاربها الزراعية على مختلف المحاصيل؛ لإفادة الزراع من تلك المباحث. وفي عهده تمت المباني الفخمة في أرض المعرض بالجزيرة، كما أنشأت الجمعية باقي العزب النموذجية في تفتيش بهتيم، وزودته بوحدة صحية، وزادت في مساحته حتى بلغت 500 فدان، وساهمت في عهده في كثير من نواحي النشاط العلمي والاجتماعي والاقتصادي، وعاونت كثيرا من الهيئات والمعاهد العلمية، وشجعت كثيرا من المشروعات الأدبية، وقامت بنشر بعض المؤلفات النافعة على نفقتها مثل كتاب «قوانين الدواوين لابن مماتي» وكتاب «الأحوال الزراعية في مصر أثناء الحملة الفرنسية». وفي عهده كذلك أقيم المعرض الزراعي الصناعي في سنة 1936 على حال من الفخامة لم يعهده الشرق من قبل، بفضل اهتمامه بالحركة الصناعية وتقدم مصر الصناعي.
أما صلته بأعضاء مجلس إدارة الجمعية، فكانت على أتم ما تكون من الود والصفاء، وكان له مكان التبجيل والحب في نفوسهم. وكانت المناقشات والمباحثات تدور دائما في جو هادئ، وتصدر القرارات بعد البحث والروية وحرية الفكر والاقتناع.
وكانت هذه الروح نفسها تحدث أثرها بين موظفي الجمعية؛ فكان العمل الإداري سائرا على أكمل وجه. والواقع أن كل شيء كان يسير تحت إشراف سموه على أسس من النظم المتينة ومبدأ الشورى.»
الفصل الثامن
هباته الإنسانية ومبراته
أمير البر والإحسان
عسير على الكاتب أن يحاول الإحاطة بمكارم المغفور له عمر طوسون، ومبراته التي لا تدخل تحت حصر. فهذه المبرات وتلك المكارم يرى الناس آثارها في كل ناحية من مجتمعنا، دون أن يستطيع قلم إحصاءها. فهي تملأ بمعالمها العيون بهجة، وتفعم بشذاها الصدور جمالا وارتياحا، حتى سمي «بأمير البر والإحسان»!
كان سمو الأمير لا يغفل لحظة عن طائفة من الأعمال الخيرية النافعة إلا ويواليها بالعطف والتشجيع. كما كان لا يدخر وسعا في سبيل تأييد المؤسسات الإنسانية بمنحه العديدة، حتى يعم الخير منها طبقات الأمة الشعبية الفقيرة.
صاحب السمو الأمير حسن طوسون، النجل الثاني لسمو الأمير عمر طوسون.
ويحدثك الناس كيف كان سموه مقصد ذوي الحاجات، وكانت محبته لكل طبقات الشعب تتجلى في هباته الكثيرة التي يضرب بها الأمثال للمشروعات العامة. فما من شدة نزلت بفريق من الناس، وما من مصيبة من مصائب الدهر الخئون حلت بساحتهم، إلا وكانت كف الأمير عمر أندى من الغمام!
وليس يستطيع إنسان أن يذكر عدد العائلات التي يجري عليها سموه مرتبات شهرية؛ معاونة منه لها على تكاليف الحياة، وفي مختلف أنحاء الإسكندرية وفي عدة مدن من القطر أسر كثيرة من فقراء الشعب، وسعها فضله، وعمها بره؛ ابتغاء مرضاة الله. بل هناك ما هو أمجد في هذه الناحية التي لا يعلم بها إلا الأقلون؛ فإن سموه يعينهم في مسراتهم كما هو مفرج كربتهم؛ فإن زواج بناتهم يتم من مساعداته المادية لهم، كما أنه عند مرضهم يرتب لهم الأطباء للعلاج، ويعمل على معاونتهم في تعليم أولادهم بالمدارس، حتى صدق فيه قول الشاعر إذ يقول:
أكلما ناب «خطب» قيل «يا عمر»
كأنما «عمر» من جنده القدر
وكل خطب دجا يبدو له «عمر»!
كأنما الشمس للآفاق والقمر!
البدو يسأله والمدن تأمله
كأنما من ذويه البدو والحضر!
أو كان في زمن القرآن إذ نزلت
آياته، أنزلت في مدحه السور!
فلا عدمنا هبات منه واكفة
لم يسقنا مثلها من كفه المطر!
حنا على العلم واستسقت معاهدنا
منه فظل عليها الخير ينهمر!
هذه آثارنا تدل علينا!
أما هباته للمعاهد العلمية، والجمعيات الخيرية، ومعاونته لها، فنذكر منها هبته للجمعية الخيرية الإسلامية، ولجمعية العروة الوثقى، ولجمعية المواساة؛ مما جعل الثناء عطرا على سموه. كما نذكر مع الفخر أنه ما قام في البلاد مشروع نافع إلا ولقي من عناية سموه ما يجعل الفائدة منه عميمة. ولم ينس أحد من أهل مصر اكتتاباته العديدة في «لجنة الأمراء»، التي تكونت برئاسته؛ لتخفيف الويلات عن الأسر التي وقع بعض أفرادها ضحايا وشهداء في ساحة الجهاد، إبان الحركة الوطنية، وتوزيعه الحبوب والدقيق على فقراء الإسكندرية، عندما اشتدت الضائقة في السنوات الأخيرة، ومعاونته للداعين إلى إقامة تمثال «نهضة مصر» بخمسمائة جنيه من ثمنه، وكثير غير ذلك مما هو معروف معلوم.
فضله في بناء المستشفى القبطي
وإذا كان المصريون يذكرون كيف تبرع الأمير عمر طوسون بخمسة آلاف من الجنيهات للنهوض بأعباء رسالتها الإنسانية، حين علم حاجتها إلى المال، فإنهم كذلك يذكرون فضله العميم على الأقباط عامة، حين أولى الجمعية الخيرية القبطية لفتة كريمة من لفتاته السامية؛ إذ تبرع لها بألف من الجنيهات تعضيدا منه لها، ولم يكتف بذلك، بل أذاع نداء عاما نشره بالصحف بتوقيعه الكريم، حث فيه المصريين كلهم، على اختلافهم، بتعضيدها، جاء فيه ما نصه:
إن الغرض الأقصى لي من ذلك هو أن أشرف على مضمار للخير في مصر بين الأخوين الشقيقين «المسلم والقبطي» اللذين يكونان عنصري الأمة المصرية، تتسابق فيه العزائم، وتتبارى الهمم؛ لأنظر إلى أية غاية يجري الأخوان المتباريان، وأيهما يحرز قصب السبق في هذه الحلبة الخيرية، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون!
وقد صدق فيه قول القائل:
إن تلك سجية فيه عرفتها له مصر، فهي ما هزت مواضع الأريحية من كرمائها إلا ورأت ذلك الأمير الجليل يرتجل الندى ارتجالا، ويرسل مكارمه أمثالا!
جهوده لتوثيق الوحدة القومية
وقد كان الأمير عمر - طيب الله ثراه - يعمل دائما على توثيق أواصر الوحدة القومية بين عنصري الأمة الشقيقين؛ فكان لا يخص جمعية خيرية إسلامية بمنحة إلا ويقرنها بمنحة أخرى لجمعية خيرية قبطية، بل إن نفحاته لتعدو غيرها إلى عديد الطوائف الموجودة بالبلاد.
وآخر ما يحضرنا من الأمثلة في هذا الشأن تبرعاته للمشغل البطرسي، ومنحته لمدرسة الأقباط الكبرى للبنين، ولزميلتها للبنات ببعض سندات من الدين الموحد، تعطى أرباحها للفائزين والفائزات. وهكذا تكون المكرمات تتلو بعضها بعضا، وصدق القائل عنها:
ولا تعجبوا لسخاء الأمي
ر فما يقذف البحر إلا الدرر!
حقا لقد كان الأمير عمر - رحمه الله - الرمز الصادق للمصري الكريم، كما كان المثال الحميد للوطني الصميم، في حبه لبلاده عامة، وفي تفانيه في عدم تمييز أحد من أبنائها على أحد إلا بعمله النافع للبلاد، وبمدى مساهمته في تدعيم بنيان مجدها التليد!
الفصل التاسع
الجمعيات التي يشترك فيها
وخير ما نختم به هذا القسم هو أن نذكر أسماء الجمعيات والهيئات الخيرية التي يشترك فيها سموه، ويعاونها ماديا وأدبيا على النهوض بأعمالها الإنسانية، وهي:
جمعية الآثار القبطية.
الجمعية الجغرافية.
جمعية مبرة الأطفال اللقطاء.
جمعية سان دي بول.
جمعية الاتحاد النسائي.
جمعية راهبات صيانة الفتاة بمحرم بك.
المعهد العلمي بأم درمان.
جمعية الإحسان السورية.
المدرسة الأهلية بأم درمان.
جمعية الشبان المسلمين.
مدرسة الفنون والصنائع.
جمعية المحافظة على القرآن الكريم بباكوس.
جمعية نقابة موظفي المصالح الأهلية بمصر.
الجمعية الخيرية الإسلامية.
الجمعية الدولية لمستخدمي الإسكندرية.
جمعية الإخوان الأغوات.
جمعية الهلال الأحمر المصري.
جمعية التوفيق القبطية.
معهد موسيقى الأطفال الخيري.
جمعية الاتحاد الفرنسي للمحاربين.
الجمعية الخيرية لطائفة الأرمن.
جمعية لاتوري كلوب.
النادي الأولمبي المصري.
جمعية راهبات باكوس.
نادي الشبان الخيري بمصر.
الجمعية الخيرية الشرقية.
مشروع القرش.
مستشفى الطائفة الإسرائيلية.
الجمعية الخيرية البريطانية وجمعية الترفيه.
ملجأ الحرية بالإسكندرية.
مدرسة الراهبات.
جمعية رعاية العميان.
جمعية خريجي الزراعة.
ملجأ الأيتام اليوناني.
جمعية رابطة الإصلاح بمصر.
جمعية التدرن الرئوي.
جمعية الإخلاص النوبية.
جمعية المواساة.
جمعية سان فنسان.
مشروع المستشفيات.
جمعية كرموز.
جمعية المحاسبة الفرنسية.
جمعية فقراء الإسكندرية بمحرم بك.
مشغل فتاة النيل البحري.
إعانة لطلبة مصطفى باشا كامل.
جمعية تلاميذ وتلميذات المكاتب العامة.
جمعية مكافحة التدرن.
الجمعية المصرية للتعاون الاجتماعي.
المستشفى اليوناني.
جمعية موتوكرس اليونانية.
الجمعية الخيرية الأهلية سان أنطوان بباكوس.
جمعية فقراء قسم العطارين.
جمعية فقراء الجمرك.
جمعية الأقباط الكاثولية.
جمعية الإحسان النوبية.
مبرة محمد علي بمصر.
جمعية المواساة الخيرية الإسلامية.
جمعية منع المسكرات.
جمعية الثبات والاتحاد القبطية.
جمعية معدومي المأوى.
الملجأ الأولي.
مطاعم الشعب بالإسكندرية.
لادي لامبسون «للترفيه عن الجنود».
العروة الوثقى الخيرية.
وذلك فضلا عن الجمعيات التي كان يرأسها سمو الأمير عمر طوسون، وهي: اسبورتنج كلوب، جمعية الشبان المسلمين، لجنة الآثار، جمعية منع المسكرات، ورئيس شرف جمعية المواساة. •••
رحم الله الأمير العظيم، فقد كان حقا نعم الرجل الإنساني الرحيم الذي يموج قلبه بالحب لكل الناس، وبالعطف لكل مشروع يكون منه الرحمة والخير لبني الإنسان، في أي مكان، ومن أي مذهب، أو أمة، أو دين.
الفصل العاشر
أفضاله على القطر الشقيق
نصير السودان
الأمير عمر طوسون يعتبر من أحب الشخصيات العظيمة إلى قلوب أهل القطر الشقيق (السودان)؛ فقد خصهم سموه بالكثير من عطفه، وقربهم إليه، واختص السودان بالجانب الأكبر من جهاده إنصافا لقضيته، فهو والحق يقال: «نصير السودان»!
ولا يمكن أن يذكر اسمه الكريم في أي بقعة من بقاع السودان إلا ويعرفه خاصتها وعامتها. فهو صاحب الفضل العظيم في توثيق الروابط الأخوية بينهم وبين إخوانهم أهل مصر. والمأثور عنه عندهم حبه لخيرهم، ورعايته السامية لهم، وتيسيره سبل التعليم لأبنائهم، بإدخالهم معاهد التعليم في مصر، إلى جانب نهوضه بنفقات معيشتهم، فضلا عن إيفاد نوابغهم إلى الخارج لاستكمال دراساتهم العالية؛ رغبة منه في أن يعودوا إلى بلادهم، فينفعوها بما اكتسبوه من معرفة وخبرة!
وكان الأمير عمر صاحب الفضل الأول في «بعثة مصر إلى السودان»؛ إذ كان أشد الوطنيين حماسة للعلاقات القائمة بين مصر والسودان، كما أنه في كل مؤلفاته التي اختص فيها السودان بنصيب كبير منها، إعلاء لشأن الروابط الأخوية التي تجمعه بمصر؛ كان حريصا على أن يعلن للعالم جميعا قداسة هذه الروابط الطبيعية، التي لا يمكن ليد السياسة أو غيرها من الأيادي أن تفصمها؛ إيمانا منه بأن الحوادث مهما تفاقمت أو تتابعت، فلن يكون لها إلا الأثر المنتظر في تعزيز هذه الروابط وتنميتها، على عكس ما يظن الآخرون!
مبراته لأهل السودان
وكان الأمير عمر كريم اليد مع كل من يقصده من أهل السودان، يبذل في سبيل خيرهم ومعاونة فقرائهم الكثير الجم من ماله، غير مبتغ شكرا أو ثناء. ولقد عمل على تعمير الكثير من المساجد وبيوت الله في السودان، كما شيد على نفقته الخاصة مسجدين في «واو» و«الجوبا»، واشترى لهما أرضا للإنفاق على تعميرهما من ريعها، ولم يدخر وسعا في سبيل تشجيع المصنوعات أو المشروعات الوطنية، والمؤسسات الخيرية التي تنشأ في ربوعه؛ فاكتسب سموه بذلك محبة السودانيين قاطبة!
وأما فضله في تعليم أبنائهم، فيكفي أن نذكر أن بعضهم لا يزال يتلقى العلم في أوروبا على نفقته الخاصة، كما كانت أبحاثه ومؤلفاته التاريخية عنه من الأسباب التي لفتت الأنظار إلى نهضته المنتظرة ومستقبله المرتجى، فضلا عما تنطوي عليه من التعريف به والدفاع عنه. وهكذا استطاع سموه أن يحكم الروابط بين أبناء القطرين الشقيقين، اللذين يجمعهما النيل بالروابط المقدسة!
وهكذا يستطيع المرء أن يذكر ما هو مأثور عن سموه من حبه لخيرهم، بمساعداته لهم في تنفيذ كل المشروعات التي يعود منها الخير عليهم حتى أصبح للأمير عمر طوسون في قلوبهم منزلة رفيعة لقاء أفضاله عليهم.
للذكرى والتاريخ
وللدلالة على مدى اهتمام سموه بقضية السودان، نورد ما ذكره سعادة الأستاذ إبراهيم بك جلال المحامي ورئيس نيابة الاستئناف سابقا في هذا الشأن؛ إذ يقول: «وفي نفسي حادث عظيم الدلالة أسوقه إلى جدثه الطاهر وجنة مأواه، عن أحداث السودان ألممت بها، ولمست منها للمغفور له أشرف المواقف.
فقد كنت في صيف سنة 1930 مديرا للمطبوعات حين تحرجت مسألة السودان بين الدولة الحليفة والمصريين. فمر بي مستشرق كبير من دولة الدانمارك وعاونته على شهود الآثار الإسلامية بالقاهرة، وكان الرجل يكاتب أمهات صحف أوروبا وأمريكا، فأراد أن يسدي إلى مصر يدا بالنشر عن السودان من الناحية المصرية، وفاتحني في ذلك فشكرت له سعيه، وسارعت إلى المغفور له الأمير عمر طوسون، فحمل إلي رسائله الفياضة بالحجج الدامغة ونشرها صاحبنا المستشرق.»
وهذا هو كتاب مولانا الأمير أثابه الله بواسع رحمته:
حضرة صاحب العزة الأستاذ المفضال إبراهيم بك جلال، مدير إدارة المطبوعات
إن طلبكم ما كتبناه عن السودان للغاية الشريفة التي بسطتموها في كتابكم ألا وهي شرح وجهة مصر في تمسكها به ليقف عليها صاحبكم المستشرق الدكتور بوجهولم، ليكتب عنها ضمن ما يكتبه في أمهات الجرائد العالمية، قد صادف مزيد الارتياح، وتلقيناه بحسن القبول. وقد دلنا ذلك على ما تتوخونه في إدارة قلم المطبوعات من الوجوه النافعة لمصر وما تتذرعون به من الوسائل المختلفة لنشر الدعاية عن قضيتها الكبرى، وهذا ما يستوجب جزيل الشكر ومستطاب الثناء.
وتلبية لهذا الطلب الحميد نرسل إليكم ما كتبناه في هذا الموضوع باللغة الأجنبية، وهو: (1)
خاتمة كتابنا عن المالية المصرية. (2)
مذكرة عن مسألة السودان بين مصر وإنجلترا أرسلناها إلى الصحف الإنجليزية وأعضاء البرلمان البريطاني.
وتفضلوا مزيد سلامنا.
عمر طوسون
4 / 5 / 1930
هذا أثر خالد أتلوه نفحا طيبا لجار الله الكريم!
السودان في الجامعة المصرية!
وآخر ما كان من أفضال سموه على السودان، واهتمامه بتوثيق أواصر المودة بينه وبين مصر؛ عنايته باقتراح إنشاء كرسي للسودان بجامعة فؤاد الأول بمصر. وفي ذلك بدت غيرة سموه في التحمس للفكرة، ودعوة المسئولين في وزارة المعارف العمومية ورجال الجامعة المصرية بالعمل على تحقيق هذا الاقتراح النافع. وقد كتب في ذلك إلى صاحب المعالي وزير المعارف أحمد نجيب الهلالي باشا، كما كتب إلى صاحب العزة الدكتور طه حسين بك، يستحثهما العمل على تنفيذه «خدمة للنهضة العلمية في القطرين الشقيقين وتعزيزا للروابط الثقافية»؛ إذ ليس أنتج للبلدين معا وأعود عليهما بالنفع العميم والخير العظيم من أن تكون هذه الروابط معززة محكمة، كما قال سموه.
ولقد رد الوزير العامل الهلالي باشا على كتاب سموه بقوله: «تلك سنة الأمير الجليل في الاهتمام بكل ما يتصل بالنهضة العلمية في وادي النيل، بما يعود على القطرين الشقيقين بالمصلحة المشتركة والخير العميم.»
وقد ذكر معاليه أنه أبلغ موضوع هذا الاقتراح إلى جامعة فؤاد الأول لدراسته من كل نواحيه، وبما هو جدير به من عظيم الرعاية والتقدير.
كما رد الأستاذ المفكر الدكتور طه حسين بك على سموه بقوله: «ليس في وادي النيل كله إلا من يعرف فضل الأمير الجليل في الاهتمام الحفي بالعلائق بين مصر والسودان. وإن سموكم صاحب السبق في كل ما يتصل بتوثيق الروابط الثقافية بين القطرين الشقيقين، وإنه ليس لأحد مثل ما لكم في ذلك من الآثار العلمية النفيسة، فضلا عن الدعوات والتوجيهات الموفقة في كل مناسبة.» •••
تلك لمحات من أفضال هذا الأمير الوطني الصادق على السودان، وكلها تنطق بالغيرة، وحب الخير، والتضحية بالجهد والمال في سبيل النفع العام. رحمه الله أوسع الرحمات، وأسكنه فسيح الجنات؛ لقاء ما أداه للشرق كله من جليل الخدمات!
الفصل الحادي عشر
صفاته المحببة وديمقراطيته العظيمة
صورة ذات ألوان!
أصدق ما ينطبق على صفات المغفور له الأمير عمر طوسون قول الشاعر الذي يقول:
ولو صورت نفسك لم تزدها
على ما فيك من كرم الطباع!
أجل! فإن كل ما كان يتحلى به سموه من الصفات الجميلة والفضائل الرفيعة جعلت حياته العامرة بالأمجاد قصيدة كل ما فيها طريف سام، محبب إلى النفوس، وخلقت له فوق الحياة حياة!
وليس أعظم في صفات الأمير من دعته، ورقة جانبه، وديمقراطيته العظيمة. فكان دائما يتواضع عن رفعة، كما يعفو عند المقدرة، وينصف حين يجد الحق في جانب الضعيف ويكاد القوي يسلبه منه من غير جدارة!
كما كان سموه مثالا للإنساني الصحيح، فهو أول أمير عزف عن الكثير من ملذات الحياة الفانية، ورغب عن الاسترخاء والرفاهية، وغيرهما من مظاهر النعمة الشائعة عند الأغنياء والطبقات الأرستقراطية، إلى جانب حبه للمسالمة؛ فإذا تسامع عن خصومة سارع إلى أن يسوي بين المتنازعين، ويقرب بين المتباعدين، مطاوعا في ذلك ما فطرت عليه نفسه المحبة للسلام!
كان الأمير عمر صديقا وفيا، الإخلاص في دمه، والوفاء في طبعه، يرعى عهود المودة؛ ويحرص على تأدية الواجبات الاجتماعية والمجاملات نحو معارفه في كل مكان، في الضراء والسراء على السواء؛ ولهذا كانت له مكانته البارزة في نفوس الجميع - مصريين وشرقيين وأوربيين - وفي ذلك لم يكن له نظير بين العظماء في أرجاء العالم!
ديمقراطية الأمير الشعبي!
وأبلغ ما يوصف به الأمير عمر أنه كان أمير شعبيا. فكان دائما قبلة أنظار الشعب المصري، وملء الأسماع والأبصار والقلوب لدى جميع طبقات الأمة، من عمال وفلاحين وموظفين. وفي ذلك يقول عنه الأستاذ توفيق دياب: «كان شعبي الإحساس، قومي المساعي، وطني البواعث، شرقي الهدف، وكانت مبادئه شرقية إسلامية، ولكن في غير نسيان لأفق الإنسانية العليا التي تظلل سماؤها - أو يجب أن تظلل - شتى الأديان والأمم!
لذلك أجمع على محبته أبناء الوادي بشطريه، مصر والسودان، وعلى إجلاله المواطنون والأجانب في هذه الديار، والشرقيون والغربيون في كل مكان ترامت إليه أفضال الأمير.
في هبة مصر إلى استقلالها، وفي فزعة تركيا بطرابلس لحماية ذمارها، وفي توثيق عرى الوحدة السياسية والاقتصادية والأدبية بين مصر والسودان، وفي مقاومة الحبشة العزلاء لإيطاليا المدججة؛ كان للأمير الراحل صوت مسموع، وعلم مرفوع، يتقدم به اليوم أبيض الوجه بين يدي الله.
ولئن كان جلالة الملك فاروق هو الديمقراطي الأول في أمته الشاكرة؛ فيؤاكل مئات الطلاب ومئات العمال على موائده الملكية، ويواسي ألوف الفقراء وألوف المرضى أينما عدت على شعبه عوادي الفقر والمرض، ويتفقد بذاته السامية زراعة الزراع وصناعة الصناع وجهد صاحب الجهد المبذول؛ فلقد كان الأمير عمر طوسون هو الديمقراطي الثاني بين أعضاء البيت العلوي الكريم؛ بيت الفاروق.
كان أخي حسن يتفقد منذ بضع سنين عمل عمال يحيون لنا أرضا مواتا في إقليم البحيرة، وبينما المحاريث تشق الأرض، والزارعون يبذرون الحب، والسماء باسمة بشمس مصر المباركة؛ إذ رتل من السيارات يدنو من الحقل ثم يقف، ويترجل الركب ويقبل نحو أخي فيخف إلى لقائه، فإذا الأمير الجليل ومن ورائه بطانته، وإذا آيات من التشجيع ونفحات من العطف يبديها الأمير على أخوين اشتغلا بالصحافة الشريفة في جد، فلما شاء القدر أن يهجراها إلى الزراعة أقبلا على الزراعة الشريفة في جد كذلك.
ذلك مثل ضربناه للروح الديمقراطية والعواطف الأبوية التي كان يجدها المصريون من الأمير المحبوب.»
وذلك لعمري خير مثل يضرب للروح العالية التي امتاز بها الفقيد العظيم.
الأمير السكندري!
وكان للأمير عمر في الإسكندرية مكانة خاصة ممتازة. فأهل الإسكندرية يعتبرونه واحدا منهم، ويكادون يقرنونه بما لمدينتهم «عروس البحر الأبيض» من طابع خاص بها. وفي ذلك يقول الأستاذ منصور جاب الله: «إن الأمير عمر كان ذا مظهر مألوف لدى السكندريين؛ إذ يترجل من عربته التي يجرها جوادان مطهمان، ويسير بمحاذاة ترعة المحمودية، آمادا طويلة؛ فيحييه السابلة على طول الطريق برفع أيديهم إلى جباههم، ويجيب على تحيتهم باسما مسرورا، وقد يستوقف بعضا منهم، ويسألهم عن حالهم، أو يعرض عليهم العمل في مزارعه إذا شام فيهم الجد والرغبة.
وكان السكندريون يتيمنون باسم الأمير عمر طوسون، ويحبون أن يظهر في كل مشروع قومي، أو على رأس كل مؤسسة وطنية؛ إذ إن مجرد رعايته لجمعية خيرية لحافز للناس على الانضواء في عضويتها.»
الأمير الأخلاقي!
وكان سموه خير ممثل للعادات والتقاليد الشرقية. وكان يرى أن الحرص عليها والتمسك بها يصون البلاد من الهزات الاجتماعية العنيفة التي غمرت أرجاء العالم في الربع جيل الذي انقضى، وأورثت الناس صنوف البلاء، وأشاعت المشاكل في الدنيا. وكان من رأيه أن اقتباس الصالح من المبادئ الجديدة يجب أن يأتي بالتدرج؛ حتى نأمن شرور التحول والطفرة أو ما يسمونه «بالانقلاب»!
وكان الأمير عمر - رحمه الله - مثاليا في سمو أخلاقه، يعجبه من الناس الصدق في القول، والإخلاص في العمل، بعيد عما يغضب ربه، يكره الخمر وشاربيها، ويراها سببا للكثير من الشرور، يجل الإسلام وتعاليمه الشريفة، ويحترم الأديان كلها ولا يفرق بينها، وكل أبناء مصر لديه سواء. وهكذا تنطبق كل صفاته بالمبدأ السديد والعمل المجيد:
وما مات من نبل الرجال وفضلهم
يحيا لدى التاريخ وهو عظام!
الأمير عمر والصحافة
وكان الأمير عمر - رحمه الله - يحب الصحافة ورجالها، ويقدر خدماتهم العظيمة للبلاد، وكانت له بأقطاب العاملين في بلاط صاحبة الجلالة صلات وثيقة، فكان لا يبخل على صحفي يقصده للاستئناس برأيه في معضلة من المعضلات السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية بالرأي الناضج ينادي به من فوق هذا المنبر المسموع. ولم يكن ممن يعتبرون أسئلة الصحفيين إزعاجا لهم، فهو - طوال حياته العظيمة - كان مؤمنا بأن الصحافة مدرسة الشعوب، وأن هدفها هو الخير العام. وكان يستخدم الصحف في ترويج آرائه الإنسانية العالية، داعيا على الدوام أبناء الوطن إلى الاتحاد، ونبذ الاختلافات، ناصحا بأن ينصهر كل فريق من الأمة في كيان الوطن المصري الخالد. وكان الصحفيون يرحبون بآرائه وينشرونها بحفاوة عظيمة، حتى أولئك الذين كانوا يخالفونه في الرأي والنزعات ، كانوا يرتاحون إلى جهاده، ويعتقدون بإخلاصه في كل ما يصدر عنه. ولا غرو فسموه كان على الدوام فصيحا، أنيق البيان، منطقيا معتدلا، شديد الاتزان، هدفه مصلحة الكل وخير البلاد.
وإنا لنورد هنا ما ذكره الأستاذ توفيق دياب عن سموه في هذه الصدد. ومنه يتضح أن الأمير كان على الدوام يستجيب لكل دعوة تنهض بترويجها صحيفة من الصحف، وكانت الصحف تجد في تعضيد سموه لدعوتها قوة توطد أساسها أمام الرأي العام، كما كان سموه يقصد بهذا التأييد أن يعبر به عن تقديره للصحافة، وتعزيزه لما ترمي إلى تحقيقه من الغايات النبيلة؛ لإيمانه الوثيق بأنها لا تهدف إلا إلى الخير والمصلحة العامة.
وفيما يلي نص ما قاله الأستاذ دياب:
في أوائل عهد الوزارة النسيمية علمت جريدة «الجهاد» أن الفقر في مدينة الرسول قد بلغ مبلغ المجاعة، فرفع الجهاد صوته بدعوة المحسنين إلى الإحسان هنالك، وبادرت الوزارة إلى فتح اعتماد قدره ثلاثون ألفا من الجنيهات اشترت بها قمحا أرسلته إلى الحجاز لإنقاذ الجياع من الهلاك؛ وهنالك تبرع الجمهور بأكثر من ثمانية آلاف من الجنيهات كانت تحول أولا فأولا إلى بنك مصر باسم فقراء المدينة.
وحظيت بلقاء الأمير، فرجوت منه التفضل بأن يرى رأيه في توزيع ذلك المال على مستحقيه من أهل المدينة المنورة، فما كان أسرع ما أمر بإضافة خمسمائة من الجنيهات إلى ما جمع «الجهاد»، وتفضل فدعا إلى تأليف لجنة برياسته كان أعضاؤها فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي والمرحومين طلعت حرب باشا، ومدكور باشا، والسيد المجددي، ومحمد بدوي بك، وإليه يرجع الفضل في إبلاغ الجهاد مأساة المدينة وكاتب هذه الكلمات.
وصح رأي اللجنة على إبقاء المبلغ مودعا في بنك مصر حتى يدرس المرحوم طلعت باشا خير الوجوه التي ينفق فيها ذلك المال برا بأهل المدينة، ولكن عن طريق الاستثمار لا عن طريق التوزيع.
ولست أدري ما انتهى إليه العمل بعد ذلك، وإنما أدري أن الأمير الراحل كان حريصا على استغلال المبلغ المودع لنفع الفقراء من جيران الرسول ؛ حرصه المشهور على البر والإحسان في كل عمل تولاه.
رحم الله الأمير البار! لقد كان مكانه في قلب الأمة مكانا فسيحا عميقا. وإنه اليوم لشاغر، وإنه اليوم لموحش.
الفصل الثاني عشر
ذكريات مطوية من ذيول الحرب الكبرى الماضية!
وشاية، واعتقال
حين تولى حكم مصر المغفور له السلطان حسين كامل - وكانت أيامه في الحكم معدودة - حدث أن شبت نيران الحرب العالمية الماضية، فوشى للحلفاء الواشون الكاشحون بأن سمو الأمير الجليل عمر طوسون - طيب الله ثراه - معاد لهم، متآمر مع الوطنيين في مراكش وتونس والجزائر ضدهم، وأنه يمد أعداءهم هؤلاء بالأموال والأسلحة. وكنت إذ ذاك أنا أيضا بأوروبا، وكان سموه كذلك هناك. ولما عزمنا على المجيء إلى مصر، كان سمو الأمير عمر قد سبقني لمارسيليا، وأنا وغيري من المصريين لحقنا به إليها على نية قيامنا جميعا لمصر، ولكن بمجرد وصول سموه إلى الميناء حجزته السلطة العسكرية وأمرته بعدم الرحيل إلى مصر، فلما وصلت أنا إلى مارسيليا، عدته لما بيني وبين سموه من أواصر الصداقة المتبادلة، فرد لي الزيارة بالفندق الذي كنت نازلا فيه.
ولما كان سموه محاطا بعدد من الجواسيس، فقد اتخذوا من هذه الزيارة ذريعة لأن ينسبوا إلي ما نسبوه لسموه، فصدرت لي أيضا أوامر أخرى من البوليس بعدم مبارحتي لمارسيليا وعدم عودتي إلى مصر؛ فهالني هذا الأمر جدا من تلك المعاملة التي لم أعرف لها من سبب، فتظلمت لرئيس الجمهورية الفرنسية ولوزير خارجيتها، وكان إذ ذاك المسيو ديلكاسيه، وكنت أعرفه شخصيا، كما تظلمت للورد كتشنر الذي كان وقتها وزيرا لحربية إنجلترا.
المرحوم اللورد كتشنر.
وبلغت المرحوم حسين رشدي باشا الذي كان رئيس الحكومة المصرية وقتها، وبعد زمن صدر لي الإذن بالسفر إلى مصر، فسررت كثيرا لحل هذه الأزمة، ولكن سروري لم يدم طويلا؛ إذ بمجرد ركوبي الباخرة عاد إلي في منتصف الليل - رئيس البوليس السري - وأمرني بالنزول منها، وأخدني في سيارة مسلحة، وأخبرني أنه صدرت إليه أوامر جديدة تخالف التصريح الذي أعطي لي. وقال: أي الفنادق تريد السكنى فيها؟
فقلت له: الفندق الذي فيه سمو الأمير.
فقال: أنصحك ألا تفعل! لأن في هذا الأمر صعوبة، وهو ليس في صالحك.
فقلت له: أنا متهم بذات التهمة الموجهة لسموه، فلا داعي لانفرادي بنفسي بعيدا عن إنسان أحبه يسليني ويسري عني، فما يجري عليه يجري علي والأمر لله!
وعلى ذلك سارت بنا السيارة مسرعة إلى الفندق الذي كان به سمو الأمير، وفي الصباح دهش سموه كثيرا لما رآني؛ فقصصت لسموه ما جرى، فتكدر جدا. أما أنا فقد عدت فكررت الشكوى حتى أنفقت على البرقيات التي أرسلتها لهذا الغرض كل ما كان معي. وبعد مضي مدة كنا محاطين فيها بالجواسيس أينما ذهبنا، صدرت أوامر جديدة بالسماح لي بالعودة إلى مصر، وعندما وصلت إلى أرض الوطن، أراد الأمير حسين - السلطان حسين فيما بعد - مقابلتي ليستعلم عن حالة البرنس عمر؛ فترددت - بل رفضت المقابلة - خوفا من أن ينالني ضرر جديد خلاف الضرر الذي مسني بسبب الأمير. وبعد أن اطمأننت تشرفت بمقابلة عظمته، فعاتبني على التأخير، فعرضت عليه السبب. وأخيرا قال لي: ماذا ترى في حل مشكلة الأمير عمر؟
فقلت: إن سموه يعلق كل آماله على همتك ويعتبرك كبير العائلة، ويترك لك الأمر للعمل على نجاته من هذه الورطة.
فقال لي: إني فعلت كل ما أستطيع، ولكن لم تزل بعض العقبات أمامي.
فقلت له: هل استعنت باللورد كتشنر؟ فأنا أعرف أنه ذو همة عالية، ومروءة كبرى، ولو طلبت إليه المعاونة لأجاب طلبك!
فقال: هذا آخر سهم عندي، فأخشى أن أستعمله الآن فيخيب أو يطيش! ولذلك فإني سأبقيه للفرصة المناسبة. وتحدثنا أخيرا في أحوال أخرى، واستأذنته وانصرفت.
وظل الأمير يجاهد، وساعده على ذلك توليته على العرش المصري، وحينذاك أمكنه إنقاذ سمو الأمير عمر من موقفه الحرج الذي كان فيه، وقدم لمصر معززا مكرما.
وهذه حسنة من حسنات المغفور له السلطان حسين، وكان سموه بعد عودته كلما رآني يبتسم ويقول لي: «أهلا بزميلي!» •••
رحم الله الأمير الجليل عمر طوسون! إن وادي النيل ليبكي في فقده زعيما وطنيا عظيما، نافح عن حقوقه، ودافع عن حياضه ؛ كما يبكي فيه الشرق مصلحا اجتماعيا كريما، خالد الأثر، بعد أن انطبعت على صفحات الصدور هباته وأعماله، ورسخت في سراديب العقول صفاته وفعاله، وصدق شوقي:
فالناس صنفان: موتى في حياتهم
وآخرون ببطن الأرض أحياء
الفصل الثالث عشر
وصيته الأخيرة ومعانيها الفاضلة
نشرت جريدة «الإنذار» الغراء، في عددها الصادر في أول مارس سنة 1944 خبرا لأحد مندوبيها الذي سأل حضرة الأستاذ باشمعاون دائرة المغفور له الأمير عمر طوسون، عن موعد الأربعين لوفاته، قال له: «لا ندري يوم الأربعين، ونحن مقيدون بنص وصية سموه في عدم إقامة الأخمسة أو ما يشابهها، وحتى هذه الحفلات التأبينية التي يعلن عنها في الصحف سيكون موقفنا منها سلبيا، ولن نحضر واحدة منها - إذا اضطررنا - إلا كشهود عاديين احتراما للوصية التي نحرص على تنفيذها.»
وكان الناس قد طالعوا أن بعض الهيئات كان قد اعتزم أعضاؤها إقامة حفلات تأبين لفقيد البلاد الأمير عمر، ولكن لم تمض أيام إلا وأعلن أن هذه الهيئات لا يسعها إلا النزول على ما تضمنته وصية المغفور له الأمير الراحل بالعدول عن إقامة هذه الحفلات التأبينية. ومن أجل ذلك أحببنا أن نورد فيما يلي ما تضمنته هذه الوصية من المبادئ العالية، وما ترمز إليه من المعاني الفاضلة.
فقد نص المغفور له الأمير الكريم في وصيته بأن يحمل جثمانه الطاهر من سراياه بباكوس في رمل الإسكندرية إلى مدافن النبي دانيال على السيارة مباشرة، بدون تشييع رسمي لها، ثم يكتفى في العزاء على ما يعمل ويجرى عقب الدفن مباشرة، مع منع إقامة الأخمسة، والأربعين، وحفلات التأبين، وإقامة معالم الحداد، وذلك بارتداء الملابس السوداء، والكرافتات السوداء أو حتى المناديل المجللة بالسواد.
ومن يتأمل هذه الوصية العظيمة الجمة المعاني، وما تنطوي عليه من مبادئ، يرى أنها في محلها، وأن الأمير الراحل حتى في مماته - رحمه الله - يستن للعالمين سننا حميدة؛ ذلك لأن أهم ما يأخذه علينا الغربيون إسراف الشرقيين في مظاهر الحداد، ومبالغتهم في إقامة المعالم التي تنطق بالحزن على من فقدوه من الأهل والأحبة، نطقا قد ينبو في كثير من الأحيان عن محيط الاعتدال. ومن هذا يتضح للناس أجمع كيف كان الأمير عمر حكيما فيلسوفا في وصيته العظيمة، رحمه الله أوسع الرحمات!
الفصل الرابع عشر
آثاره المجيدة، أو بعض أفكاره السديدة!
واجب الشرق الأول
سئل سموه عن أول شيء يجب على الأمم الشرقية أن تهتم به في حياتها العامة، فأجاب بما يلي؛ وقد نشرته مجلة «الهلال» الشهرية:
إن الجواب على هذا السؤال يختلف باختلاف من يلقى عليه، وما يخطر بباله عند إجالة الفكر فيها؛ فمثلا الأشياء التي تنقص الأمم الشرقية في حياتها العامة عديدة، وتقديم بعضها على البعض الآخر بالاهتمام به لمسيس الحاجة إليه، وكثرة مزاياه، قد يكون في نظرنا غير ما هو في نظر غيرنا، يصح أن يكون الذي ألقي في روعنا، وتشبث فيه فكرنا والتمس له الأسباب والنتائج ليجعله أولى الأشياء بالاهتمام لو لم يسبق إلى الخاطر بمناسبة خفية، وملابسات خاصة، وسبقه غيره لكان أولى منه عندنا وأجدر بالتقديم والأفضلية.
فالجواب عن هذا السؤال وأمثاله يعتمد كل الاعتماد على الاعتبار، ولكل إنسان وجهة في طرق تفكيره واعتباره للأشياء. ولا تظهر وجاهة مثل هذه الآراء إلا إذا عمل بها، وجربت وبانت فوائدها عيانا حتى لم يعد فيها شك شاك، ولا ظنة مرتاب.
هذه مقدمة صغيرة نقدمها بين يدي إجابتنا، ليتبين منها مذهبنا فيها، وأنها مبينة على الاعتبار، وقد تطابق الواقع أحيانا وتصيب شاكلة الصواب، وقد لا تكون كذلك.
وبعد، فأولى الأشياء باهتمام الأمم الشرقية في حياتها العامة، كما يكون من الوجهة الاجتماعية يكون من الوجهة السياسية والاقتصادية، وغيرهما من الوجهات الكثيرة. على أن هذه الوجهات مشتبكة مترابطة لا انفصال بينها ولا انقطاع، حتى لتؤثر إحداها في الأخرى، وتأتي نتيجة ذلك بأثر في الثالثة عفوا بلا قصد وبدون تعمل وهكذا. ولا شك أنكم لا تريدون كل هذه الوجهات، بل تقصدون واحدة منها، فنقول مجيبين عن سؤالكم:
إن أول ما يجب على كل أمة من الأمم الشرقية أن تعيد النظر في تكوينها وتأليفها كأمة ، فتشيد بناءها من جديد تشييدا محكما، وتدخل في كيانها العناصر التي تفيض على الحياة، وتنفخ في جسمها الروح بعد أن تعرف كل ما صدع بناءها الأول من الآفات والعلل، فتقتلعه وترمي به وراء ظهرها، فلا تجعل للمذاهب أيا كانت، والديانات مهما اختلفت، سبيلا لتصديع هذا البناء وتوهين أسسه ودعائمه، بل تكسر حدتها، وتقف بها عند حدودها، ولا تتجاوز ما وضعت له من قصد الخير لا إلى ما وصلت إليه الآن من الانقسام والتفرق، وما جر إليه من الأحقاد والضغائن؛ فإن هذا هو الذي أضعف شأنها، وجلب عليها البلاء العام والضر الشامل.
فإذا عرف زعماء كل أمة وكبراؤها أن أسباب ما هم فيه من المصائب في أنفسهم، وفي أوطانهم، إنما هي تلك الخلافات التي ورثوها عن أسلافهم، والتي أورثتهم العداوة والبغضاء، وقسمتهم على أنفسهم، وفرقتهم شيعا، وجعلت بأسهم بينهم شديدا، وقوتهم ضعفا، وكثرتهم قلة، واعتقدوا ذلك حقيقة، وألموا به؛ لا يلبث ذلك الألم أن يهيب بهم إلى العمل على تناسي هذه الفوارق، وفض هذه الاختلافات أو تلطيفها وحصرها في أضيق الدوائر؛ حتى لا تكون مانعة من أخوة أبناء الوطن الواحد، ولا حائلة دون ما يجب أن يكون بينهم من الهيبة والتعاون والتناصر، بحيث يصبح لهم من الوطن الذي آواهم والمرافق المشتركة بينهم جامعة تجمعهم ورابطة تربطهم وتؤلف بين قلوبهم. فلا تلبث تلك الخلافات الحادة، والنعرات المتأججة أن تخمد جذوتها فتنقلب بردا وسلاما، وتصير نسيا منسيا أمام المصالح العامة والمنفعة القومية.
وبالجملة فإن داء الشرق الشقاق، ودواؤه الوفاق. وقد عرف ذلك حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني، فذكره في جملته المأثورة: «اتفق المصريون على ألا يتفقوا.» وأدركه الغربيون، فكان أساس سياستهم في الشرق سياسة «فرق تسد»! وقديما أورث الخلاف أبناء الوطن الواحد الضعف والذلة. وفي حكاية منشأ ملوك الطوائف بفارس، وما أشار به أرسطو على الإسكندر ليدوم سلطانه عليهم أبلغ العظة والعبرة لمن يتعظ ويعتبر. ومن حكمة المهاتما غاندي عندما بلغه نزاع بعض المسلمين له جهلا وغباء ما حمله على أن يقول : «إننا لنرضى أن نكون تحت حكم الأقلية من إخواننا المسلمين، ونفضل هذا على انقسامهم علينا وخلافهم لنا.»
هذا ما رأيناه أول ما يجب على الأمم الشرقية الاهتمام به، وتجدوننا فيه لم نأت بجديد. وإنما رددنا صدى أقوال الآخرين؛ لأنها في نظرنا ليس وراءها غاية لمستزيد.
عصبة أمم شرقية
وسئل سموه أيضا: «وهل يمكن تأليف عصبة أمم شرقية؟ وكيف تكون وأين يكون مركزها»؟
فقال: إذا عملت كل أمة شرقية كل ما يمكن عمله لتكون أمة حقيقية مؤتلفة متحدة متضامنة مصبوبة في قالب واحد، معتزة بوطنها وقوميتها، كان من السهل بعدئذ النظر في تأليف عصبة أمم شرقية تنظر في الأمور العامة التي تشملها، فيكون لها صوت مسموع وأثر محمود.
أما الآن وهي كما هي فإن تألف هذه العصبة وإن كان ممكنا يكون واهنا ضعيفا في ذاته، فضلا عن سريان الوهن إليه من الأعضاء الذين تتألف منهم تلك العصبة، فلا يكون لها كبير طائل ولا جدوى. أما كيف تكون وأين يكون مركزها فأمور ثانوية ومن التسرع الخوض فيها الآن.
نهضة الشرق الحاضرة
ومن رأي سمو الأمير في نهضة الشرق الحاضرة، وهل هي محققة للآمال أو تنقصها عناصر تحتاج إليها، وإذا كان لها عيوب فبماذا تداوى هذه العيوب قوله: إن نهضة الشرق الحالية لا ريب فيها. وقد كان للحرب العالمية الأخيرة وكوارثها أكبر الأثر فيها، ولكنها إلى الآن لم تحقق الآمال، غير أن الأمل معقود ببلوغها هذا الشأن إن قريبا وإن بعيدا. ولا شك أنها تحتاج إلى عناصر أخرى أهمها العناية بالصنائع المختلفة التي تغني الأمم عن جلب ما تحتاج إليه، وتكون مصدر رزق لكثيرين من أفرادها، ومن أسباب الإثراء والغنى والقوة والاستقلال حتى لا يظل الشرق - كما هو - عالة على الغرب.
وعيوبها العامة ما لا يزال يشوبها من الانقسامات والخلافات الحزبية والسياسية والدينية. ولها أيضا عيوب خاصة تختلف باختلاف الأوطان الشرقية. فعيوب النهضة في مصر أنها تسرف في ترسم خطا أوروبا في الحسن والقبيح، وتقلد المدنية الغربية تقليدا أعمى. فهي نهضة غير مستقلة لم يراع فيها ما بيننا وبين الأوروبيين من خلاف في الطباع والعادات والأخلاق والدين، ولم ينظر فيها إلى مدنيتنا القديمة مع أن الواجب الأخذ منها، بل جعلها أساسا لنهضتنا الحاضرة، مع ترك ما لا يتفق وروح العصر، أو تعديله واقتباس ما لا بد منه من مدنيات الأمم الأخرى، بما فيها المدنيات الأوروبية، وصبغه بصبغتنا؛ حتى تبقى لنا قوميتنا الممتازة وطرق حياتنا الخاصة.
الشرق شرق والغرب غرب!
وسموه يرى أن القول الشائع بالشرق شرق والغرب غرب قول حق يؤيده التاريخ والواقع، والماضي والحاضر؛ إذ لا يمكن الجمع بينهما إلا إذا علت الإنسانية عن أفقها الحالي، فشملت الناس جميعا. وهذا بعيد الاحتمال جدا، والتعلق به ضرب من الأوهام.
طرق الإصلاح الاجتماعي
كذلك يرى سموه أن خير طرق الإصلاح الاجتماعي التي ينبغي اتباعها في الوقت الحاضر - وهي كثيرة - ولكن المهم منها، ولنذكرها مجملة موجزة، هو: (1)
القضاء على الخلافات والمنازعات والخصومات السياسية والدينية. (2)
تعميم التعليم الذي يذهب بالأمية عن أبناء هذه الأمة بنين وبنات، وإصلاح برامجه ومناهجه في درجاته كلها إصلاحا عاما يضمن لجوهرها وأصولها الثبات وعدم التقلقل، ولا تستعصي معه عن التمشي مع التغييرات الضرورية التي يقتضيها مرور الزمن، وما يجيء به من الطوارئ. ويجب أن ينظر في هذا الإصلاح إلى المصلحة العملية قبل أي شيء آخر؛ حتى تخرج لنا أبناء صالحين لمزاولة جميع المهن والأعمال الحرة لا يتهافتون على الوظائف، ولا يقصرون نظرهم عليها. (3)
الاهتمام بمختلف الصنائع المنتجة اهتماما كبيرا بمقدار حاجتنا الشديدة إليها، والتغلب على العقبة القائمة في سبيلها وسبيل التوسع الزراعي في مصر بتوليد الكهرباء من التيارات المائية، والعمل لهذا الأمر الحيوي الهام بهمة ماضية لا كما هو حاصل الآن من التلكؤ والتسويف فيه.
فمتى صدقت الهمم هانت أمامها الصعاب، وأدنت ما بعد مناله، وأتت بالعجب العجاب. وبذلك يتهيأ إيجاد المصانع الكثيرة، وبالأخص مصانع النسيج والغزل، فنستهلك جزءا كبيرا من قطننا في بلادنا، ولا يكون سلعة بائرة كما هو الآن، وكما ينذر به المستقبل. وقد عددنا هذا الأمر من الإصلاح الاجتماعي مع أنه أدخل في باب الاقتصاد؛ لما له من علاقة كبيرة به. ومن ذلك إنشاء «البنوك المالية الأهلية» التي لا غنى عنها للصناعة والزراعة والتجارة، وجمعيات التعاون. (4)
العناية بالشئون الصحية، ومضاعفة في مقاومة الأمراض المستوطنة في بلادنا، وتوفير أسباب النظافة، وقطع دابر عادة «الحفا» المتفشية في أبناء القرى والفلاحين، وتشجيع الألعاب الرياضية، وتوسيع نطاقها، ومقاومة المسكرات والمخدرات، ومنع البغاء الجهري والسري. (5)
حسن القيام بوظيفة الوعظ والإرشاد، وتعميمها، وتخريج العدد الكافي لها من الخطباء المؤثرين والوعاظ المهذبين الذين يعهد إليهم في القيام بتعزيز جانب الفضيلة والتربية العامة للأمة، وبث روح الدين بطريقة لا تجعله أداة للتفريق، بل يكون كما يريد الله رحمة عامة وسببا في الخير والسعادة.
وقد بدأت بذلك فعلا وزارة الأوقاف والأزهر الشريف، وسيكون لهذا العمل العظيم أثر كبير في الإصلاح إذا عمم في الوجهين البحري والقبلي، ونظم تنظيما محكما، وروعيت فيه الطرق القويمة المؤدية إلى الغرض، وأفردت له مصلحة تنظر في شئونه وترقيته، وكيفية الرقابة عليه؛ فإنه جدير بذلك لما يرجى من ورائه من الفوائد العظمى، وعندنا أن هذا النوع من الإصلاح في أمة يكثر فيها الأميون أقرب الوسائل للتعليم العام، وأسرع وسائط التثقيف والتهذيب واستتباب الأمن والطمأنينة ومقاومة المنكرات. (6)
التعاون بين الهيئات المنظمة على احترام «الدستور» احتراما يتغلغل في النفوس، ويكفل له النمو والشيوع؛ حتى يصبح نظام الشورى عاما في جميع الشئون؛ فيكون أساسا في بناء الأسر، ويسود العلاقات والمعاملات بين الناس.
ما للمرأة وما عليها
أما عن رأي سمو الأمير فيما يجب للمرأة الشرقية، وما يجب عليها، فهو يقول: يجب للمرأة منذ الطفولة التهذيب والتربية والتعليم، ويجب لها وهي زوجة العدل والإخلاص وحسن المعاملة؛ حتى تتمكن من تأدية وظائفها في المجتمع، فتكون زوجة صالحة وربة بيت مدبرة، مشاركة لبعلها في الحياة مشاركة مثمرة.
ونعني بتعليمها أن تتعلم ما يمكنها من القيام بالوجبات التي عليها لزوجها وبيتها وأبنائها، وهذا ما يجب عليها. ويجدر أن يكون من بين النساء من يتعلمن ما لا بد منه للنساء، وأن يعرفن بعض الصنائع، وما يدخل في باب جمال الحياة وزينتها من غير إسراف ولا إفراط.
فمن الأول أن تكون معلمة أو طبيبة أو قابلة أو ممرضة أو خادمة، ومن الثاني أن تتعلم صناعة الخياطة أو النسيج أو التطريز ونحو ذلك، ومن الثالث أن تتعلم بعض الفنون الجميلة كالتصوير والموسيقى والغناء والرسم والكتابة والشعر.
أما أن تكون محامية أو مهندسة أو ممثلة أو نائبة أو ما ماثل ذلك مما يقضي عليها بالاختلاط المحظور والتبرج الممقوت، فرأينا أن في ذلك مع عدم الحاجة إليه أكبر الضرر عليها وعلى المجتمع. ولا يعنينا أن من الأوروبيات من تزاول هذه الأمور أو تطالب بها، فلهن شأن ولنسائنا شأن آخر.
وأكبر ما نوصي به بنات وطننا أن يتزين بالحياء والعفاف والفضيلة أكثر مما يتزين بالثياب والأطلية والحلي، وأن يمقتن التبرج والخلاعة والمجون والسرف والرذيلة، ويمقتن من تتصف بها منهن، وأن يتمتعن بالحرية الواجبة لهن حقا وعدلا مع المحافظة على الشرف والصيانة والعرض، فيكن جديرات بالاحترام الواجب لهن خليقات بالإكرام والإعزاز.
الفصل الخامس عشر
مسألة الوقف الأهلي
رأي الأمير عمر طوسون
كثر البحث في هذه الأيام في مسألة الأوقاف الأهلية؛ لمناسبة مطالبة الكثيرين من ذراري الواقفين القدماء بحلها وإعادتها أملاكا حرة بحجة أن نظام الوقف بات ينطوي على خلل ولا يتفق مع تطور الزمن، وأن الكثيرين من «المستحقين» لم يعد يصيبهم من إيراد الأملاك الموقوفة عليهم ما يسد الحاجة بسبب ما يرونه من ضروب العلل في الوقف وطرق إدارته وصيانته واستغلاله.
وكان حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون قد أبدى رأيه في هذا الموضوع الخطير، ونحن نورد بيان سموه فيما يلي:
الوقف نظام اجتماعي قديم جاء الدين الإسلامي فأقره واعترف به وجرى العمل عليه فيه منذ الصدر الأول من الإسلام إلى الآن. وهو نوعان: وقف خيري يقفه صاحبه على وجوه الخير مباشرة؛ كأن يقفه للفقراء أو للمساجد أو المدارس والمستشفيات ونحوها. وهذا النوع لا خلاف في صحته بين المسلمين.
والنوع الثاني: الوقف على الذرية ثم من بعدهم على وجه من وجوه الخير المذكورة. وهذا هو موضع الخلاف.
فالكثيرون من فقهاء المسلمين يقولون بصحته، ناظرين في ذلك لمآله إلى الخير. والأقلون لا يرون ذلك، ولكن العمل في بلاد الإسلام جرى على قول القائلين بصحته، فأصبح الوقف على الذرية من تقاليدنا الإسلامية التي مرت عليها القرون العديدة، فتأصلت جذورها، وثبتت دعائمها وأصولها في عامة بلاد الإسلام شرقا وغربا، وأقرها فقهاء المسلمين وقضاتهم ومحاكمهم وخلفاؤهم وملوكهم وأمراؤهم، وجرى العمل بها على أيديهم وتحت أنظارهم حتى قلما تجد بلدا إسلاميا صغيرا أو كبيرا خاليا من الوقف على الذراري.
فالواقع أن هذا النوع من الوقف إن لم يكن شرعيا في أصله على زعم بعض الزاعمين فهو على الأقل عمل جرى به العرف، وكل ما جرى به العرف من المسائل وأقره أولياء الأمور، فقد أصبح ملتحقا بالأمور الشرعية التي يصح بقاؤها على ممر الأيام، خصوصا إذا كانت الفوائد التي تجنى منه من الأمور المسلم بها. ولا شك أن هذه الفوائد محققة، ولولا ذلك ما صدر الوقف على الذراري من أكابر المسلمين جيلا بعد جيل حتى وصل إلينا.
فجمهرة الواقفين وهم من أكابر الأمة الإسلامية ما حملهم على صدور هذا النوع من الوقف منهم إلا ما تحققوه من عائدته على ذراريهم وعلى البلاد بالفوائد والمنافع من وجوه شتى.
وإليك ما حضر ببالنا منها: (1)
حفظ ثروة البلاد، وبقاء أعيان هذه الثروة دون أن يلحقها بيع ولا رهن. وعندي أنه ينبغي أن يحرم أيضا على الموقوف عليهم رهن ريعه، أو بمعنى أصح التنازل للغير عن هذا الريع، وكذلك الحجز على ريع المستحقين بالأوقاف، وللحكومة سابقة في ذلك في المرسوم الذي صدر منها عندما استبدلت بمخصصات الخديوي إسماعيل باشا وعائلته أطيانا من أملاكها، واشترطت وقفها لهم ولذريتهم. فلو جعل ذلك بمرسوم قانون لامتنع ما هو حاصل الآن وشكت منه وزارة الأوقاف على صفحات الجرائد. فقد ذكرت «الأهرام» أن الأوقاف الأهلية التي تديرها الوزارة مدينة بنحو المليونين من الجنيهات بينما ريعها لا يجاوز ثمانين ألفا. فيجدر بالذين قاموا بالضجة حول الأوقاف الأهلية أن يطالبوا بمنع هذا الضرر لتسلم أعيان الوقف وريعها لمستحقيها كاملة غير منقوصة. (2)
صون البيوتات العريقة من الاندثار، وحفظ أفراد الأسر الكريمة من الضياع والفاقة، وهذا مشاهد محسوس. فلولا الأوقاف لما وجد كثير من أبناء هذه البيوتات ما يعيشون منه. (3)
ما يكتسبه أهل الثراء عادة من محاسن الخلال. فالحاجة تدعو إلى الملق والذلة، والثروة تربي في النفس الشجاعة والشهامة والصراحة والحرية، وغير ذلك من الفضائل التي يبنى عليها تقدم البلاد ورقيها. (4)
بقاء الأعيان الموقوفة سليمة متجددة على ممر الدهور والأعوام. وفي ذلك ما فيه من عمارة البلاد واستبحار العمران فيها. (5)
قد يخرج من أبناء الواقف وذراريهم من يكون مبذرا سفيها. فإذا وجد أمامه هذا السد المنيع - أعني هذا الوقف - لطف ذلك من طباعه، وخفف من تبذيره، وضيق من سوء تصرفه. (6)
إطلاق الحرية الشخصية لكل فرد في تصرفه ما دام لا يجر ضررا؛ فمن الناس من يشتغل في الحياة ويكد فيها ويجمع منها ثروة طائلة يكفيه منها جزء قليل، ويريد أن تكون هذه الثروة محفوظة لذراريه وحفدته طبقة بعد طبقة؛ لينتفعوا منها من بعده، وليبقى اسمه مذكورا بينهم معروفا بين الناس. فالوقف هو الذي يضمن له ذلك، وهو الذي يؤدي إلى هذا الغرض النبيل الذي قصد إليه، وبدون الوقف لا يتم له هذا الغرض. فلماذا نفوت عليه غرضه هذا ونمنعه ونحول بينه وبين إرادته؟! إن الأشخاص الذين يريدون حل الأوقاف التي يستحقون ريعها لا يحملهم على ذلك إلا الفائدة العاجلة التي تنالهم من هذا الحل، وهم في الواقع لا يستحقونها؛ لأن من كان يستحق قبلهم لو صنع بالوقف مثل ما يريدون أن يصنعوا به لما وجدوا شيئا يحلونه ويتصرفون فيه، وهم لو فكروا قليلا لعرفوا أن الذريات التي سيرزقون بها ستنطلق ألسنتهم بالسخط على تصرفهم هذا بدلا من الترحم عليهم والدعاء لهم. (7)
رجوع الوقف على الذراري مآله إلى الخير، وبهذا كثر الوقف الخيري، وضخمت موارده في البلاد الإسلامية؛ لأن الذين يقفون أملاكهم للخير مباشرة عددهم قليل جدا، فلولا الأوقاف الأهلية التي مآلها إلى الخير لما كانت موارد الأوقاف الخيرية بهذه الضخامة. (8)
سلامة رأس العين وبقاؤها رغم كل سوء تصرف، وهذا ما ينفرد الوقف به عن سائر المؤسسات الأخرى التي قصد إلى بقائها كأملاك الجمعيات والشركات؛ فإن سوء التصرف يأتي عليها ويذهب بها عينا وأثرا دون الوقف؛ ومع ذلك فلم تفكر الحكومات ولا أحد في منع تأسيس هذه الجمعيات أو الشركات بعلة أنها عرضة لسوء التصرف وإلحاق الضرر بالمساهمين فيها.
وبعد، فالوقف على الذرية جم الفوائد كثير المنافع، وليس فيه في نظرنا من عيب اللهم إلا حرية المستحقين لريعه في التداين على هذا الريع؛ فإذا منعوا من ذلك سلم الوقف من كل عيب. هذا عدا مسألة النظارة، وللحكومة أن تتصرف فيها كما تشاء، بما يضمن وصول الحقوق إلى ذويها من المستحقين.
الفصل السادس عشر
المرأة والعمل في رأي سمو الأمير عمر طوسون
قد تكلمنا في مسألة المرأة والعمل أكثر من مرة. وقد نشرت الجرائد رأينا في هذا الموضوع فيما مضى؛ فقد قلنا ولا زلنا نكرر القول: إن الأولى بها أن تلزم عقر دارها، وتعنى بتربية أولادها. وليس لها أن تخرج عن محيط البيت إلى ميدان الأعمال، وتزاحم في ذلك الرجال، وتسبب لهم البطالة والعطلة، بل الأجدر بها أن تكون قدوة حسنة في حياتها العملية والعلمية، وتطرح وراء ظهرها هذه المزاحمة الممقوتة وما ينشأ عنها من الاختلاط الضار بها، وأن يكون رائدها في كل ما تعمل وتفعل تعاليم دينها الحنيف؛ فيزداد إيمانها بالله تعالى، وتقوى فيها عاطفة الدين؛ فيكون لها منه الواعظ المخلص والمرشد الأمين.
ولا شك أن المنزل وحده هو ميدان العمل الصالح للمرأة؛ فإذا وجهت إليه عنايتها، وقصرت عليه أعمالها، وتولت الإشراف عليه بنفسها، كان في ذلك سعادتها وسعادة زوجها وأولادها. وبسعادة الأزواج والأولاد تسعد الأمة وترقى البلاد، وعلى النقيض من ذلك إذا عملت المرأة خارج المنزل، وزاحمت الرجال في أعمالهم، واضطرت لذلك إلى مخالطتهم؛ أهمل المنزل الذي هو كيان الأسرة، وتغيرت طباع الأولاد وعاداتهم وخلالهم ، ونجم من هذا كله أضرار جمة تنشأ عنها أمراض اجتماعية كثيرة تنتشر وتكون حربا عوانا على العباد والبلاد.
وليس مما يروق أعيننا أن نرى المرأة المصرية تزاحم الرجال في ميادين الأعمال، مقلدة في ذلك المرأة الأوروبية مع أن الفرق بينهما كبير. فالواجب عليها ألا تجاري الأوروبية هذا المضمار الكثير المضار، والذي يشكو قادة الفكر في أوروبا من انسياق النساء فيه، وأن تعود إلى حلبة أعمالها في المنزل؛ فذلك أبقى على احترام تقاليد بلادها الشرقية وصونها من العبث.
ومع ذلك، فإننا نرى زعماء أمم أوروبا التي تريد المرأة المصرية أن تجاري نساءها في هذا الشأن، بل رؤساء حكوماتها، يقروننا على أن البيت هو البيئة الصالحة لتظهر فيه المرأة كفايتها العملية. وينبغي لها أن توليه عنايتها وتحصر فيه أعمالها.
فقد قال أحد المفكرين المشاهير: إن المرأة تنحصر أعمالها في أشياء ثلاثة: الأولاد
Kinder
والمطبخ
Kuche
والكنيسة
Kirche .
وقال مسيو ليون بلوم - رئيس وزراء فرنسا السابق - في كتابه «الزواج
Le Mariage »: إن المرأة إذا أرادت سعادتها الشخصية فعليها أن تقصر حياتها على المنزل.
وكفانا ذلك تدليلا على أن المنزل هو البيئة الصالحة لعمل المرأة، وأنه خير ميدان تنزل فيه نساؤنا لمزاولة الأعمال.
وقد جاء من بمباي أن المهاتما غاندي تحدث أمس عن مهمة المرأة، فقال «إنه يرى مما يحط من كرامة الرجل والمرأة معا أن تدعى المرأة إلى ترك بيتها أو تقسر على ذلك قسرا؛ لكي تحمل بندقية في سبيل الدفاع عن ذلك البيت. إن هذا الرجوع إلى الهمجية هو بدء النهاية؛ فالمرأة التي تحاول ركوب الجواد الذي يركبه الرجل تسقط نفسها وتسقط الرجل معها. فلتسقط على رأس الرجل جريمة إغراء شريكته أو حملها على ترك مهمتها الخاصة. ولا ريب أن في تنظيم بيت الإنسان من الشجاعة مثل ما في الدفاع عن هذا البيت ضد العدوان الخارجي. فلتحول المرأة كل ما وهبها الله من روح الأمومة إلى العمل لخير الإنسانية حتى تعلن للعالم المتحارب فن السلم!»
الفصل السابع عشر
إصلاح القرية المصرية وترقية شئونها الصحية
كتاب من سموه لمعالي الدكتور عبد الواحد بك الوكيل
حضرة صاحب المعالي وزير الصحة العمومية
كنا نفكر منذ مدة في أمر تحسين القرية وجعلها على حالة صحية تكفل راحة الفلاح وسلامته من الأمراض والأوبئة التي تتفشى في بيئته بسبب ضيق مساكن القرية ورداءتها، وما يتراكم في شوارعها من الأوحال والقاذورات الضارة بالصحة. وكنا نرى تحسين القرى الحالية لجعلها صحية مع بقائها في محالها الراهنة أمرا جد عسير إن لم يكن مستحيلا لهذه العقبات المحلية الطبيعية.
ولما أجري تعديل في مجرى بحر بسنديله بتفتيش دميرة ملكنا، وكان من نتيجته فصل قرية ميت زنقر عن زمامها، رأينا العقبات التي كانت تعترض مشروع هذه الفكرة قد ذللت، فسارعنا إلى تنفيذ أمرين: الأول نقل هذه القرية إلى البر الغربي الذي فيه زمامها حتى تكون وسط مزارعها. والثاني توسيع رقعتها وإجراء التحسين الذي كنا نفكر في إجرائه. وقد صرحنا لكل من يريد الانتقال إلى القرية الجديدة أن يأخذ مساحة تساوي مساحته في القرية القديمة، كما صرحنا لكل من يريد زيادة مساحة مسكنه الجديد عن القديم أن يأخذ هذه الزيادة بسعر المتر خمسة قروش صاغ، وتسديد الثمن على سنتين؛ تسهيلا لإجراء هذا الإصلاح القروي الصحي.
وقد أقبل السكان على البناء بدافع الرغبة، وبمحض إرادتهم بشكل غير منتظر وبدون أي ضغط عليهم؛ ولما رأوا في ذلك من توافر أسباب الراحة لديهم. فتم إلى الآن بناء 52 منزلا على مساحة قدرها 6س 14ط 3ف. ولولا ارتفاع أثمان أدوات العمارة من خشب وحديد وأسمنت وغيرها، وعدم توافرها بالأسواق، لتم بناء القرية الجديدة جميعها في مدة وجيزة وبهمة زائدة.
وعلى حسب ما تم من بناء وجد أن متوسط مساحة المنزل الجديد 290 مترا مقابل 155,74 من الأمتار للمنزل القديم. واعتبر هذا أساسا لبناء القرية جميعها مع اتساع الشوارع والميادين من 16٪ قديما إلى 38,47٪ في القرية الجديدة كما هو مبين في الرسم المرسل مع هذا. فأصبح مسطح القرية 12س و8ط و36ف بعد أن كان 12س و9ط و9ف، وبلغ عدد مساكنها 324 مسكنا متوسط مساحة المسكن منها 390 مترا بعد أن كان عددها 213 مسكنا متوسط مساحة الواحد منها 155,72 من الأمتار. وهذا فضلا عما عساه أن يحدث من اطراد في العمران؛ فتحققت بذلك هذه الفكرة لحسن نظامها وتوافر أسباب الراحة فيها.
وتحقيقا لهذه الرغبة في تحسين القرى جمعاء بنفس الطريقة التي اتبعناها في قرية ميت زنقر؛ قد طلبنا من مصلحة الإحصاء موافاتنا ببيان مسطحات الأراضي المقامة عليها مباني القرى بالمملكة المصرية؛ لمعرفة ما ستكلفه الحكومة في هذا الشأن. وقسمنا هذه القرى إلى أربعة أقسام: القرى التي مسطحها إلى 10 أفدنة، والقرى التي مسطحها فوق 10 إلى 20 فدانا، والقرى التي مسطحها فوق 20 إلى 30 فدانا، والقرى التي مساحتها فوق ال 30 فدانا. وقد صار تطبيق الأقسام الثلاثة الأولى على أساس مسطحات قريتي ميت زنقر القديمة والجديدة مقدرين سعر الفدان من أراضي القرى التي تستولي عليها الحكومة لبيعها في المستقبل مبلغ 100ج عند البيع، وسعر الفدان من الأراضي التي ينزع ملكيتها لإقامة القرى الجديدة عليها مبلغ 150ج. ويدفع كل مزارع ثمن زيادة منزله بسعر المتر خمسة قروش صاغ مقسطا على سنتين - كما سبق القول - فوجد ما تتكلفه الحكومة في القرى التي مسطحها إلى 10 أفدنة - وعددها 1248 قرية - مبلغ 95م/925698ج، وما تتكلفه في القرى التي مسطحها فوق 10 إلى 20 فدانا - وعددها 963 قرية - مبلغ 140م/1782439ج، وفي القرى التي مسطحها فوق 20 إلى 30 فدانا - وعددها 501 قرية - مبلغ 354م/1586623ج حسب المبين بالكشف المرسل مع هذا. أما القرى التي مساحتها إلى 30 فدانا، فنرى أنها ستكلف الحكومة مبالغ طائلة؛ فلا يستحسن نقلها.
فإذا وقعت هذه الفكرة لدى الحكومة موقع الاستحسان بعد درسها، نرى أن تعمل تجربة عن بلدة واحدة في كل مركز من القرى التي مساحتها إلى 10 أفدنة حتى إذا ظهرت فائدتها نظر في إتمامها بالتدريج.
وإذا رأيتم معاليكم إيفاد مندوب من الوزارة لمشاهدة قرية ميت زنقر الجديدة، وعينتم موعدا لقدومه، فستجدون إن شاء الله ما يقر أعينكم وترتاح إليه نفسكم.
واقبلوا وافر سلامنا واحترامنا.
عمر طوسون
26 مايو سنة 1943
رد معالي وزير الصحة على سموه
حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون
تشرفت اليوم بوصول خطاب مولاي الأمير، الذي تفضل فيه فأبدى النتيجة الناجحة السارة لتجربة إنشاء قرية جديدة بدلا من قرية ميت زنقر القديمة، بتفتيش دميرة، على أصول صحية، وبطريقة النقل التدريجي مع مساعدة الأهالي في الحصول على الأرض اللازمة لمنازلهم الجديدة بأثمان متهاودة تدفع على أقساط.
كما تشرفت بالاطلاع على البحث القيم الذي أجراه مولاي الأمير عن مقدار ما تضطلع به الحكومة من الوجهة المالية باتباع هذه الطريقة ذاتها للقرى التي تقل مساحتها عن 30 فدانا.
وإنني أسارع فأقدم إلى سموكم بأجزل الشكر على تعطفكم بإرسال هذا البحث الجليل في موضوع له خطره وأهميته القصوى؛ إذ يمس ملايين الفلاحين الذين يجدون في سموكم خير ساع وباحث لما فيه نفعهم، سواء في أملاك سموكم الخاصة أو فيما تقوم به الجمعية الزراعية الملكية تحت إشراف سموكم وتوجيهكم. ولا عجب في ذلك؛ إذ هو ديدنكم في كل الأمور التي تمس مصر وسكانها.
وسيكون لاقتراح سموكم والتجربة الناجحة التي تمت في ميت زنقر فضل كبير في توجيهنا نحو إيجاد حل عملي سهل قليل التكاليف نسبيا لحل المشكلة الكبرى من مشاكل القرويين؛ وهي مشكلة بناء القرية الجديدة.
وقد اعتزمت بمشيئة الله أن أحظى شخصيا بزيارة تلك القرية مع رجالي المختصين للاستفادة بالاطلاع على ما تم فيها، ويرجح أن يكون ذلك يوم الجمعة 11 يونيو سنة 1943. فإذا سمح لي مولاي ولهم بذلك كنا من الشاكرين.
وختاما أنتهز هذه الفرصة كي أعبر لسموكم عن سروري بوصول هذا البحث القيم؛ إذ كان دليلا على تمتع سموكم بالصحة الكاملة التي أدعو الله أن يديمها وأن يديمكم ذخرا للبلاد.
وزير الصحة العمومية
الدكتور عبد الواحد الوكيل
تحريرا في 27 / 5 / 1943
الفصل الثامن عشر
ما يراه في شئوننا الاجتماعية
نشرت صحيفة «المصور» الغراء ما يلي:
وحدة عربية وعصبة أمم شرقية
كان سمو الأمير عمر طوسون أول الأمراء المصريين الذين يهتمون بالشئون المصرية العربية. وقد قال لي سموه في الصيف الماضي: إن الوحدة العربية فكرة جليلة، ولكن يجب أن تقوم على أساس متين من قوة الأمم التي ستشترك فيها، فتكون كل أمة منها أمة حقيقية مؤتلفة ليس للمذاهب ولا للديانات سبيل لتصديع بنائها وتوهين دعائمها؛ فإن آفة الشرق الخلافات المذهبية والدينية. وقد ورث هذه الخلافات عن أسلافه، فأورثت أبناءه العداوة والبغضاء بين الهيئات والأفراد، وقسمتهم على أنفسهم، وفرقتهم شيعا؛ فأضعفت قوتهم، واستغل الأجنبي هذا الضعف في سعة نفوذه بينهم وسيطرته عليهم.
فإذا عملوا لفض هذه الخلافات أو تلطيفها وحصرها في أضيق الدوائر، وجعلوا هدفهم الوحيد هو المصلحة العامة والمنفعة القومية، أصبحت جامعة قوية، ورابطة متينة، لا ينفذ إليها الغير. وإذا تحقق ذلك بين أبناء كل أمة من الأمم العربية، ثم بينها وبين بعضها والبعض الآخر أمكن كذلك أن توجد رابطة أغنم من الرابطة العربية، تتألف منها عصبة أمم شرقية تساهم فيها أمم الشرق الأدنى.
الشرق والغرب
وكان رحمه الله يؤثر الشرق دائما، ويعتز بتقاليده على الرغم من أنه أتم دروسه في سويسرا، وسافر في شبابه إلى إنجلترا وفرنسا، وساح في كثير من مدن أوروبا، وعكف على خدمة الإسلام والعرب وتركيا ومصر والسودان. وكان يقول: «الشرق شرق والغرب غرب.»
وهو قول يؤيده التاريخ والواقع والماضي والحاضر.
وكان يقول: «إن الغرب عمل في الماضي بسياسة فرق تسد، ولكن الحرب الحاضرة ستغير هذه السياسة، وستتغلب الدعوة إلى التعاون والتضامن في سبيل الإنسانية على كل ما سواها.»
الاستقلال الاجتماعي
وقال لي سموه عن النهضة المصرية التي كان من أقوى أركانها، ومن أعظم بناتها: «إن الخلافات الحزبية والدينية لا تزال من الأسباب التي تعرقل تقدم البلاد من الوجهتين السياسية والاجتماعية. وهناك عيب خطير في الناحية الاجتماعية، وهو أننا نترسم خطا الغربيين في الحسن والقبيح على السواء، ونقلد المدنية الغربية تقليدا أعمى، فبينما ننادي ونتمسك بالاستقلال السياسي، نفرط كل التفريط في استقلالنا الاجتماعي، بل في استقلالنا القومي.»
المرأة والمحاماة
وكان لسموه رأي في تعليم الفتاة المصرية واشتراكها في الأعمال الحرة؛ فهو يرى أن من أوجب الواجبات أن تتعلم كل ما يمكنها أن تتعلمه من أنواع العلوم والآداب، ولكن في مقدمة ذلك كله تهذيبها وتعليمها ذلك التعليم الذي يؤهلها لأن تكون زوجة صالحة. ثم يلي هذا أن تتعلم ما لا بد منه للنساء، وأن تعرف بعض الصنائع وما يدخل في باب جمال الحياة وزينتها؛ فتكون معلمة أو طبيبة أو قابلة أو مربية أو ناسجة أو خائطة أو موسيقية أو كاتبة أو شاعرة. أما اشتغالها بالمهن البعيدة عن وظيفتها كالمحاماة والهندسة، فكان لا يرى ذلك من الوجهة العملية، وإن كان لا يرفضه من الوجهة الثقافية.
وزارة الشئون الاجتماعية
وكنت أتحدث مع سموه يوما عن الإصلاح الاجتماعي، ولم تكن وزارة الشئون الاجتماعية قد أنشئت بعد، فقال سموه: إن الإصلاح الاجتماعي في مصر يحتاج إلى أداة حكومية تديره وتشرف عليه وتعاونه، ولا يكون ذلك إلا بإنشاء وزارة جديدة تدعى وزارة الشئون الاجتماعية، فهو أول من قال بها في مصر.
إذا لم نحكم السودان
ومن أبرز ما اشتهر به سموه في جهاده وبحثه التاريخي عنايته بالسودان. ومن أقواله التي اشتهرت عنه: «إذا لم نحكم السودان، فليحكمنا السودان.»
وكان يقول عن مصر والسودان: «أمة النيل الكبرى.»
وقال لي: إن جدي محمد علي ما أقدم على فتح السودان إلا لعلمه أن مصر من السودان والسودان من مصر جزء لا يتجزأ.
الشبان والأعمال الحرة
وقد كان سمو الأمير عمر طوسون في شبابه أعظم مثل للشباب العصامي؛ فقد توفي والده طوسون باشا وهو في الرابعة من عمره، وبعد أن أتم دراسته عكف على إدارة أعماله بنفسه، وكانت هذه الأعمال - ولا سيما ما يختص بالأراضي التي ورثها عن والده - تحتاج إلى عناية وجهود طويلة؛ فقد كان الكثير منها أرضا بورا، فاستطاع بهمته أن يخلق منها أرضا زراعية تنتج أحسن الإنتاج.
الفصل التاسع عشر
حول تغيير لباس الرأس في الجيش المصري
أهرام 27 يونيو سنة 1939
ذكرت الأهرام أمس أن العمل أوشك أن يتم في إنشاء مصنع في مصر تابع لوزارة الدفاع الوطني لتموين الجيش بمهماته. وقد رأيت أن أستطلع رأي صاحب السمو الأمير عمر طوسون؛ فتفضل سموه وأفضى بالتصريح التالي:
لقد كان سرورنا عظيما عندما حملت إلينا جريدة الأهرام الغراء نبأ اعتزام وزارة الدفاع الوطني إقامة مصنع لمهمات الجيش المصري، وأنه سيكون من بين مصنوعاته الطرابيش. ولقد سمعنا قبل ذلك بأيام قلائل بعض أخبار وإشاعات حول تغيير الطربوش الذي هو لباس الرأس للجنود المصرية بلباس آخر، فتأثرنا لذلك النبأ، ولكنا عددناه من الإشاعات التي تروج في بعض الأحيان عادة، وهي بعيدة عن الحقيقة.
وقد جاء نبأ اعتزام وزارة الدفاع إقامة هيكل المصنع الذي سيكون من بين مصنوعاته الطرابيش مفندا لهذه الإشاعات، وإننا نشكر وزارة الدفاع على احتفاظها بلباس الرأس الذي اعتاد الجنود ارتداءه أكثر من قرن. ولا يخفى أن الطربوش هو شعار الرأس الذي عرف به المصريون بين الأمم، وأنه الرمز القومي الذي يجب الاحتفاظ حقا بقوميتنا، وتابعنا في ذلك الأمم التي تعتز بحقوق قوميتها وتحافظ عليها محافظتها على كل ثمين غال. والتفريط في ذلك في نظرنا يجر إلى التفريط في غيره، وهكذا فلا تبقى للأمة شخصية، بل لا تصبح بعد ذلك في الحقيقة لها من الأمة إلا الاسم!
الفصل العشرون
منافسة المرأة للرجل في ميدان العمل
رأي سموه في هذه المسألة
بتقدم الإنسانية في سبيل الحضارة تنشأ مسائل اجتماعية هامة يحتاج حلها إلى مزيد كفاح وانتباه وتفكير. ولا يخفى أن هذه المسائل لا تحل بإجابة واحدة قاطعة، وأنها مركبة، وأنها تختلف في كل بلد؛ لأن العادات والآداب تختلفان بالنسبة إلى الزمان والمكان. ومن أهم تلك المسائل الاجتماعية الحديثة مسألة مزاحمة المرأة للرجل في ميدان العمل؛ لأنها تتعلق بنظام عاشت عليه الإنسانية منذ وجودها. وهذا النظام هو أن يعمل الرجل لسعادة أسرته في خارج البيت، كما تعمل المرأة لهذه السعادة في داخله. فإذا خرجت المرأة من بيتها وأرادت أن تنافس الرجل في العمل، فقد قلب هذا النظام، وكان الرجل والمرأة في العمل سواء.
والآن نريد أن نعرف النتائج المترتبة على مزاحمة المرأة للرجل في ميدان العمل. ولأجل ذلك ينبغي لنا أن نعرض آراء القائلين بهذه الفكرة - وهم أنصار التعصر - ثم آراء المستنكرين لها - وهم الثابتون على المبادئ القديمة - ونستخرج أخيرا رأينا في تلك المسألة التي ضاع فيها أنهر من المداد وجبال من الورق.
فأصحاب الرأي الأول - وهم جمهرة من النساء وعدد قليل من الرجال - يرون الدفاع عن حرية المرأة، ويستنكرون بقاءها تعمل للبيت. والأسباب التي يستندون إليها في ذلك هي أن المرأة كانت طول الماضي عبدا للرجل ولا حق لها في الحياة خارج البيت؛ حيث كانت تحل فيه مكانا وضيع المقام جدا، وهي وإن لم تكن أرفع من الرجل إلا أنها تعادله في القوة العقلية، وليس لديها عيب يمنعها من أن تنال درجة عالية في الحياة الاجتماعية، ولم يكن هناك سبب في خفضها إلى هذه الحال طول الماضي سوى الظلم والجور، وأن الظلم لا بد أن يعوض؛ فتعطى المرأة المكان الذي تستحقه في الحياة، ويعترف بقدرتها على العمل، ويجرب جدها ونشاطها.
ويرى أصحاب الرأي الثاني أن فطرة المرأة وتكوينها هما اللذان أشارا إليها أن مكانها في البيت؛ لأنه إذا كان الرجل الذي خلقه قوي يرتد تحت تعب العمل، فما بال المرأة؟! وأن المرأة ليست عبدا للرجل، ومن قال ذلك فقد عبث بالحق؛ لأن كل مخلوق لا مفر من أنه يعمل العمل الذي خص به وخلق له؛ فالمرأة خلقت لمساعدة الرجل في أمور الحياة؛ ولذلك لها ميدان خاص يقيد فيه عملها وهو البيت. فهناك بنظامها ومهارتها في تربية الأولاد تفيدهم وتفيد نفسها خير الفائدة، وتدرك غرض حياتها أتم الإدراك، وتفيد أمتها والهيئة الاجتماعية. وبالعكس إذا عملت خارج البيت نشأ عن ذلك أضرار جمة؛ إذ من يتولى عنها نظام البيت وتدبيره؟ ومن يعنى بتربية الأولاد؟ وإذا كانت تربية الأولاد متروكة في أيد أجنبية، فماذا يكون مستقبلهم بين الأمة؟
وإذا خرجت المرأة للعمل وكانت بنتا، نشأ من هذا ضرر خطير للجماعة، وهو ترك نظام الزواج؛ لأن المرأة إذا كسبت معيشتها، وشعرت بأنها حرة جرت إلى اللهو والتسلية في أماكن غير مناسبة لها، وشعرت من نفسها بعدم ميلها للزواج الذي يحجزها. وليس في إمكان أمة أن تعيش عيشة راضية بدون نظام الزواج الذي هو أقوى عماد للدولة في تركيب الحياة الاجتماعية الحاضرة. فإذا ترك هذا النظام فسدت الأخلاق والآداب، واضطربت الحياة الاجتماعية أكبر الاضطراب كما هو كان حاصلا في أوروبا؛ حيث أبطلت بعض عقود الزواج وأصبحت ملاة كما يقولون. وإذا أضفنا إلى ذلك أن منافسة المرأة للرجل في العمل تضيق عليه سبل الارتزاق وتجعله عاطلا، فهمنا أن خروج المرأة من بيتها للعمل يكون فيه أكبر ضرر لعواقبه الضارة الوخيمة؛ لأنه يوجه الإنسانية إلى سبل ملتوية تكون العقبات فيها جمة.
ولا ريب عندنا أن هذه الآراء سديدة صائبة، وأن أصحابها صائبون فيها كل الإصابة، وذلك للنتائج الآتية: (1)
لما كان عدد الإناث اللاتي يدخلن ميدان العمل لا يتجاوز في الوقت الحاضر عدد المحال التي يمكنهن أن يدخلنها، فلا يوجد بينهن عاطلات، إلا أنه مع مرور الزمن وتوالي الأيام يزداد عددهن، فتظهر في صفوفهن هذه الفئة العاطلة. وعوضا عن أن يوجد كما هو الحال اليوم عنصر واحد من العاطلين يصبح لدينا عنصران، وينشأ عن ذلك ارتباك أدهى وأمر من الارتباك الذي نراه في صفوف الرجال. (2)
إن حلول الجنس النسوي في تلك الوظائف يمهد لهن سبل المعيشة، فيدعوهن هذا إلى عدم البحث عن الزواج، وهو إحدى الضروريات من الوجهتين الاجتماعية والاقتصادية؛ لأنه الوسيلة في التناسل وازدياد عدد الأهالي الذي هو أكبر أسباب العمران. (3)
وعلى فرض أن أولئك الفتيات اللواتي يباشرن الوظائف يقبلن على الزواج، فيخشى من أن الرجال الذين يتزوجون منهن يبغون من وراء ذلك القعود عن العمل والمعيشة من كسب زوجاتهم، وهذا أمر، فضلا عن أنه لا يشرف، ولا يتفق مع نواميس الطبيعة المسيطرة على وظائف الهيئة الاجتماعية وواجباتها. (4)
وفي مثل هذا الزواج كما في غيره ستتوافر الأعمال المنزلية؛ من شئون المنزل، وتربية الأولاد إذا كان هناك أولاد، وغير ذلك. فمن ذا الذي سيشرف على تلك الأعمال؟ وهل يترك للزوج أو الخدم ذلك الواجب الذي هو من شئون ربة البيت ومن خصائص أم هؤلاء الأولاد؟ وكيف نوفق بين هذه الحالة والواجب الطبيعي المفروض على الجنس النسوي؟ (5)
ولقد نسائل النفس: هل يساعد على ترقية مستوى الآداب أن يترك أهل هؤلاء الفتيات لهن الحبل على الغارب بدون حسيب ولا رقيب في غضون معظم اليوم بحجة العمل، فيترددن وهن طليقات على أوساط لا تلتئم مع جنسهن. (6)
قد ينشأ من شغلهن الوظائف فتور وتقصير في أداء العمل كما يجب بسبب ضعفهن وسرعة تأثرهن وعطف الرجال عليهن. (7)
كثرة الطلاق بين النساء العاملات المتزوجات، واضطراب الحياة الاجتماعية لذلك.
ويرى إذن مما سبق إيضاحه أن هذا اتجاه ضار وخطر من كل الوجوه على الهيئة الاجتماعية، تجب علينا مكافحته بكل ما أوتينا من قوة لكي نقصيه عنا.
وليس من السهل إيجاد علاج شاف لاجتثاث هذا الداء من جذوره، وغاية ما يمكن عمله هو الالتجاء إلى الملطفات، وهي في نظرنا تنحصر فيما يأتي: (1)
أن يكف الجنس النسوي قطعيا عن المزاحمة في الوظائف أو المهن التي تختص بالرجال، وأن يلازم كل جنس الحدود التي خصته بها الطبيعة. (2)
غلق أبواب التعليم العالي والفني في وجوه الفتيات، اللهم إلا ما لا بد منه من تخريج فئة منهن على قدر الحاجة من المعلمات والمحاميات والطبيبات.
Page inconnue