أما ميمونة فلما رأتهما يتحولان إلى المنزل قعدت على فراشها وقد أنهكها التعب وازدادت هواجسها وتهيبت من الخروج إلى بهزاد في تلك الساعة للاستفهام عن سر ما شاهدته وصبرت نفسها إلى الصباح.
وقضت بقية ذلك الليل كأنها في بحر هائج، ولم تغمض عينها إلا قبيل الفجر فغرقت في النوم ولم تستيقظ حتى أيقظتها جدتها، ففتحت عينيها فرأتها واقفة عند رأسها تقول لها: «قومي يا ميمونة، إننا على أهبة المسير.»
العودة إلى زينب
نهضت ميمونة مذعورة تلوم نفسها على التأخر، وتلثمت بخمارها واحتذت نعالها ومشت في أثر جدتها حتى خرجتا من الدهليز، فسمعت صهيلا فالتفتت فرأت بهزاد على جواده وقد تزمل بعباءته وجعل الصندوق بين يديه على القربوس، والتفت إلى ميمونة وعبادة وأشار إليهما إشارة الوداع وأومأ إلى سلمان قائلا: «اذهبا مع سلمان.» وهمز جواده.
فأحست ميمونة كأن قلبها قد نزع من مكانه، وهمت بأن تستوقف بهزاد فإذا به قد ساق جواده مسرعا، فبهتت وكاد الدم يجمد في عروقها، ونسيت موقفها وبكت، فأمسكت جدتها بيدها وقالت: «هلم بنا فالقارب في انتظارنا على الشاطئ. وأما الطبيب فإنه سيوافينا إلى قصر المأمون.»
فمشت وقد تولتها الدهشة وعيناها شائعتان نحو بهزاد حتى توارى، وجدتها لا تعلم ما يكنه قلبها، أو لعلها علمت بعضه وتجاهلت رفقا بعواطفها، وترفعا عن الميل إلى الاستطلاع والسؤال كما يفعل العجائز اللاتي يجدن في الحديث عن الآخرين لذة. أما عبادة فقد ربيت في بيت رجل كبير وتعودت معاناة العظائم ومشاهدة الغرائب، وانقطعت لتربية ميمونة وتولت كفالتها ولازمتها ملازمة الظل فلا تخاف عليها أن تأتي أمرا لا ترضاه لها، ناهيك بإعجابها ببهزاد وإيثاره على الجميع.
فسارتا الهوينى إلى الشاطئ وسلمان بلباسه الأصلي وقد التف بعباءته، حتى أقبلوا على دجلة فرأوا الحراقة في انتظارهم فركبوها وأمروا الربان فأدار الدفة نحو بغداد وأرخى الشراع. وجلست عبادة بجانب حفيدتها على مقعد في صدر الحراقة وكل منهما في هاجس، وجلس سلمان بالقرب من الربان يتلفت نحو الشاطئ على الجانبين كأنه يراقب أمرا يتوقع حدوثه.
وما جرت السفينة ساعة حتى ظهرت حراقة قادمة من بغداد تشق عباب الماء وعليها علم عرفه سلمان أنه علم الفضل بن الربيع، وأن السفينة من سفنه، فأوجس في نفسه خيفة وأسرع إلى ميمونة وعبادة، وأشار إليهما أن تنزلا عن المقعد وتستترا. فلما رأت ميمونة إشارته ولهفته خافت ونزلت وجدتها وعيناهما تراعيان الحراقة الأخرى، وكانت قد فرشت بالسجاد والوسائد. ووقف فيها جماعة من الخدم، بينما تصدر المجلس شاب جميل الخلقة عرفت عبادة أنه ابن الفضل، والتفتت إلى ميمونة فرأتها تنظر إليه فلما تحققته انقبضت نفسها وضاقت وامتقع لونها وأغضت بصرها.
أما عبادة فنظرت إلى سلمان كأنها تستوضحه، فابتسم تشجيعا لها وقال بصوت منخفض: «لا تخافي يا مولاتي إن هذا الغلام لا يجرؤ على أمر ونحن في حراقة مولاي المأمون.»
فقالت: «وماذا يفعل لو كنا في سواها؟»
Page inconnue