ولم يكن منزل صاحب الشرطة بعيدا عن قاعة العيارين فما عتموا أن وصلوا إليه، فترجلوا بجانب باب كبير غلب النعاس على حارسيه، فلما سمعا قرقعة اللجم نهضا فرأيا الهرش فوسعا، فدخل الهرش والملفان سعدون إلى جانبه يتوكأ على عكازه، ومشى أحد الحراس بين يديهما بالمصباح في رواق مستطيل إلى قاعة عليها ستر مسدول. وعلى بابها حاجب خف إلى استقبال الهرش مرحبا، فابتدره قائلا: «هل مولاك هنا؟»
قال: «أظنكم على موعد من لقائه؛ لأني لا أعلم أنه يسهر إلى مثل هذه الساعة.»
فلم يجبه الهرش وظل سائرا حتى رفع الستر وأشار إلى الملفان سعدون أن يدخل، وأومأ إلى حامد أن يمكث في الرواق ريثما يستقدمه، أما الحاجب فأعلن قدوم الزائرين بقوله: «إن الهرش داخل يا مولاي.»
فدخل سلمان وهو فيما وصفناه من قيافته الملفانية بعد أن نزع حذاءه وترك عكازه بجانب الباب، فرأى ابن ماهان في صدر القاعة على وسادة وبجانبه رجلان مال أحدهما عليه كأنه يقص عليه حديثا مهما؛ فعرفه سلمان أنه سلام صاحب البريد جاء ليسر إليه خبر موت الرشيد، وكان ابن ماهان يتطاول بعنقه لسماعه وقد بدت الدهشة في عينيه.
وكان الرجل الآخر شابا في نحو الخامسة والعشرين من عمره، جميل الطلعة حسن البزة، وجهه مشرب حمرة، ويتلألأ في عينيه ماء الشبيبة، وعليه ثوب ثمين وحول قلنسوته عمامة مزركشة، وقد تربع وأخفى قدميه تحت سراويل من الخز الثمين. وقد تضوعت القاعة من طيبه. ولم يكن هذا الشاب أقل إصغاء لحديث صاحب البريد من ابن ماهان؛ فعرف سلمان أنه ابن الفضل بن الربيع، ولم يكن أحد من هؤلاء يعرف الملفان سعدون إلا بما سمعوه عنه من الهرش.
وكان ابن ماهان شيخا تقدمت به السنون ولكن مطامعه ما زالت في إبانها، وله لحية واسعة يخضبها بالحناء، وقد تغضن جبينه واتضحت الشيخوخة في وجهه، ولكن الكبرياء والغرور ما زالا ظاهرين في جلسته ولفتته وأسلوب خطابه. وقد زاده كبرا ما اختص به من الدالة على رجال الدولة لسبقه في خدمتها منذ أيام المنصور. فإنه لما توفي هذا الخليفة سنة 158ه، وأبى عيسى بن موسى أن يبايع لابنه المهدي ، كان ابن ماهان حاضرا فوضع يده على قبضة حسامه وقال له: «والله لتبايعن أو لأضربن عنقك.» فبايع فارتفعت منزلة ابن ماهان لدى الخلفاء العباسيين من ذلك الحين. وتولى عرش الخلافة في أيامه أربعة خلفاء آخرهم الرشيد. وكان قد حسد البرامكة ووالى الفضل بن الربيع واتفقا على معاداة الفرس ومن قال بقولهم؛ ولذا قربه الأمين وجعله صاحب شرطته فأصبح همه تأييد سلطانه.
وكان شديد القلق على مستقبل الخلافة بعد سفر الرشيد، وكاشف الهرش بذلك فأخبره بمقدرة الملفان سعدون على استطلاع الغيب ووعده بأن يأتيه به في تلك الليلة؛ فلبث ابن ماهان في انتظاره على مثل الجمر، فجاءه صاحب البريد أثناء ذلك وأسر إليه نعي الرشيد وجلسا يتباحثان فيما عساه أن يحدث من التغيير. أما ابن الفضل فكان يتردد على ابن ماهان ويجالسه بلا كلفة، فاشترك في سماع الخبر. فلما سمع ابن ماهان الحاجب ينبئه بقدوم الهرش التفت نحو الباب فرآه داخلا وسلمان إلى جانبه، فرحب بهما واصطنع ضحكة يتلاطف بها كما يفعل بعض المتغطرسين إذا أحب التظاهر بالتواضع. •••
لم يحفل سلمان (أو الملفان سعدون) بما بدا؛ فظل داخلا وسلم، ثم قال الهرش: «هذا الملفان سعدون قد جاء معي.»
فابتسم ابن ماهان وهو يمشط لحيته بأنامله ولم يتزحزح من مكانه وقال: «مرحبا بالملفان العالم المنجم.» وأومأ إليهما أن يجلسا، ثم التفت إلى صاحب البريد وقال: «قد كنت في قلق لاستطلاع الخبر الذي قصصته علي فأحببت أن أستعين على كشفه بعلم هذا المنجم، ولم يعد بنا حاجة إلى ذلك الآن.» ثم اعتدل في جلسته وقال: «ولكني سررت بلقائه، لعلي أحتاج إليه في فرصة أخرى.»
فأدرك الهرش أن صاحب الشرطة يحسب خبر صاحب البريد سرا عليهما، فنظر إلى الملفان سعدون نظرة فهم مراده منها، فالتفت إلى ابن ماهان وقال: «أرى صاحب الشرطة في شاغل مع صاحب البريد ومع مولانا ابن الفضل، وأخشى أن نكون قد ثقلنا بمجيئنا.»
Page inconnue