Amin Rihani
أمين الريحاني: ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب
Genres
وبعد، فإن الباحث في شئون العمران، والمنقب عن أسباب سعادة الإنسان، لا يكاد يمعن بصره في شيء يذكر، أو يجيل فكره في أي عمل من الأعمال الجليلة النافعة، إلا رأى فيه يدا ظاهرة للأدباء والشعراء، وأصحاب الهيمنة على المشاعر والقلوب؛ ذلك بما لهم من السعي المحمود، والقصد المشهود؛ فهم قادة الأفكار، وأمراء الأقلام.
أجل، بل هم رسل التعارف بين الأمم، وألسنة الوداد بين الشعوب، بما يؤلفون به بين القلوب من نفثات أقلامهم، وما يودعون الألباب من حكم منظومهم، ومحكم منثورهم.
ولما كان الإنسان مدنيا بطبعه، محتاجا لأخيه في شد أزره، وتقوية عضده؛ فكر في تنظيم الاجتماع والتعاون، وبث العلوم والمعارف؛ لتقوى الجامعة الإنسانية، وترسخ دعائم حضارات الأمم. فأخذت كل أمة على عاتقها القيام بشيء من هذه المنافع على قدر استعدادها، والعمل على ما يصل إليه جهدها. والمرء إذا رجع إلى تاريخ الاجتماع وجده حافلا بما للأمم الشرقية من الأيادي البيضاء على الإنسانية جمعاء، بما نشرت من معارفها، وأتقنت من صناعتها، وأكملت من مدنيتها، وأوسعت في حضارتها، وأبقت على الدهر من آثار قوتها.
نعم، قد كان أولئك الآباء والأجداد رواد حكمة، وناشري فضيلة، لا يكتفون بنشر العلم فيما بينهم، بل كان الواحد منهم إذا ظهرت له الحكمة، أو واتته المعرفة بشيء يخشى فوات نشره لتعميم فائدته؛ سابق الأجل فرسمه على الصخر والحجر، ليبقى عبرة أو تذكرة لمن شاء أن يتذكر فيفعل، ومثالا يحتذى في إكمال كل عمل.
أولئك الآباء الشرقيون أصحاب الهمم العالية، والمقامات السامية، قد جعلوا الشرق بهمتهم العلياء، وعزتهم القعساء، جنات زاهية، قطوفها دانية، بما أودعوه من بديع المدنيات، وجليل المآثر والعادات، حتى تمنى كثير من رجالات الغرب وفلاسفته أن يكون مستقبل أممهم كماضي أولئك الأمجاد:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
يقول لويس جاكوليو:
آه، ما أسعدني إذا صار ماضي الهند مستقبل فرنسا!
ويقول فولتير الفيلسوف الفرنسي:
Page inconnue