Amin Rihani
أمين الريحاني: ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب
Genres
وكان مسك الختام كلمة رقيقة للمحتفل به، أشاد فيها بفضل الكاتبة الشهيرة مي على الأدب الشرقي، وشكر الجميع على ما يلقى من الحفاوة والترحيب، وبسط الكلام في نهضة الشرق وما يجدر بأبنائه في دور النهضة الحاضرة، فوقعت أقواله موقع الاستحسان والاعتبار.
وعاد المجتمعون إلى التحدث فيما كان موضوع خطب الخطباء، وأصحاب الدعوة يبالغون في تكريمهم، ثم خرجوا مودعين رب البيت، وحضرة قرينته الفاضلة، وكريمته النابغة، شاكرين ما لقوا من الكرم والإكرام، متمنين أن تكثر مثل هذه الاجتماعات لتوثيق عرى الألفة بين أدباء الشرق، وتنشيط النهضة الشرقية. (4-1) خطبة الآنسة مي
أيها السادة:
من رقيق العادات أن القوم إذا نزل عليهم عزيز جاءوا بأصغرهم سنا وشأنا يهدي إلى الضيف الأزهار، ويلقي بين يديه كلمات الترحيب، كأنهم بذلك يقولون للزائر: إننا نقدر قدومك تقديرا يعجز دون وصفه الكبير فينا، وإنما نقدم لك الطفل اعترافا بهذا العجز، ودلالة على أن الكبير عندنا والصغير سواء في الشعور بالاغتباط والامتنان.
وعلى هذه العادة جرى أبواي فقدماني - أنا أصغر أعضاء البيت - لأشكر لكم تشريفنا بحضوركم، ولأرحب بكم بالكلمة العربية البسيطة التي لا يزيدها الاستعمال إلا عذوبة وجمالا: أهلا وسهلا. لقد جئتم أهلا، وأرجوكم أن تتناسوا طول السلم؛ ليتسنى لي أن أضيف: ووطئتم سهلا.
ولكن لا بأس بالصعوبة أحيانا، وأكاد أقول: إن قيمة الأعمال تقدر بالتغلب على المصاعب، ولا بأس بشيء من التعب للاحتفاء بمن هو بالاحتفاء حقيق. ليس غرضي هنا التنويه بأمين أفندي، والإشادة بذكره - وهو أمر ما فتئ يقوم به رجالنا الأفاضل من مصريين وسوريين منذ أن حل مترجم المعري بوادي النيل - غير أني ما ذكرت الريحاني إلا ذكرت أنه كان جليسي يوم كنت أتلقن اللغة العربية على نفسي، أتلقنها على حبي لهذه اللغة التي أباهي بأني لم أدرسها على أستاذ. كان جليسي في «الريحانيات»، وقد كانت «الريحانيات» من الكتب الخمسة أو الستة التي عرفتني باتجاه الفكر العربي الحديث في صيغتي الشعر والنثر.
استهل الجزء الأول من «الريحانيات» بمقال وصف فيه مسقط رأسه «وادي الفريكة»، ذلك الوادي الذي أحبه، وتغنى بمحاسنه، راسما منه الصخور والأشجار والمرتفعات والمنحدرات والألوان والأصوات، مصورا ما أحاط به من الجبال المتعانقة عناقا أبديا تحت رعاية الأفق المخيم عليها، مستحضرا منه المياه المتدفقة، والرياح العاصفة، والشمس المشرقة، والكوكب المتلألئ.
يا لجمال روح الريحاني في مقال «وادي الفريكة»! قال «رسكن»: «إن جمال المشاهد الطبيعية كثيرا ما يقوم بما مر عليها أو وقع فيها من حوادث تاريخية أو فردية.» كذلك تشبعت عندي جميع صفحات الكتاب بحياة من «وادي الفريكة»، وصرت كلما قرأت فصلا خلته مكتوبا في ذلك الكهف، أو تحت تلك الشجرة، أو عند ذلك الغدير.
وأرى الريحاني سائرا في معاطف الوادي تحت سيول الأمطار، هائما بالطبيعة في انفعالها وغضبها، طربا لتساقط الأوراق، متسائلا عمن فتح تلك الطريق الصغيرة بين الأشواك والأدغال، ومطلقا عليه اسم «بطل الوادي »، ثم يقف متفهما معنى السكينة بعد العاصفة، متنشقا بنسمة واحدة خليط أنفاس الوادي.
صرت أحسب «وادي الفريكة» هيكلا يأوي إليه الريحاني ليتأمل ويبحث ويفكر - والفكر صلاة الفيلسوف، على رأيه - حتى إذا ما كشر المجتمع عن أنيابه ليؤلمه وينسيه لحظة الجمال والحقيقة والصلاح، حتى إذا ما أوجعته الصغائر وأمضته الجراح، سأل الوادي تعزية، ودوزن قيثارته مناديا ربة ذلك الهيكل الطبيعي قائلا: داويني ربة الوادي داويني، اغسلي جرحي وضمدي كلومي، أعيدي إلي ما سلبتني الآلام من مجد الحياة الشعرية، وأزيلي عن أجفاني كآبة الأجيال. داويني ربة الوادي داويني، ربة الإنشاد أصلحيني.
Page inconnue