Amin Khuli et les dimensions philosophiques du renouveau
أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد
Genres
كذلك تعيش الجماعات المتطرفة في واقع تلك المصنفات التراثية، التي كانت نتاجا أو استجابة لظروف حضارية انتهت منذ قرون عديدة، ملغين ظروفنا وواقعنا، ولا يلتفتون إلى أن فتاوى ابن تيمية لمواجهة المغول لا تصلح لمواجهة أمريكا ومجلس الأمن، وأن معالم سيد قطب كانت على طريق الاصطدام مع التجربة الناصرية الاشتراكية التي أضحت الآن أثرا بعد عين.
من هنا يتصاعد الشرر، من المطابقة بين الدين والتراث، بين العقائد من ناحية ونواتج الجهد البشري في مرحلة تاريخية معينة، من ناحية أخرى فيريدون صياغة الحاضر على غرار الماضي، من حيث المحتوى المعرفي والمفاهيم، حتى تفصيليات الأنماط السلوكية. تنشغل إسرائيل بالأسلحة النووية والقنابل الذكية، وينشغلون هم بالشهب والحراب على من حرم النقاب، متصاغرين متخاذلين في التحدي الحقيقي أمام الآخر الغربي الذي نزع النقاب عن المادة ليكشف الذرة، ثم نزع النقاب عن الذرة ليكشف الجسيمات، ثم نزع النقاب عن الجسيمات الذرية ليكشف - أخيرا - الكواركات، ولا يكتفي أبدا. أي النقابين الانشغال به الآن عند الله وعند عباده خير وأبقى! فالمطابقة الخاطئة بين الإسلام وتراثه تضر الإسلام قبل سواه؛ لأنها تفرض فيه تحجرا عند مرحلة تاريخية أسبق، تحجرا زائفا لا يوجد إلا في عقولهم. فالدين رسالة، مسئولية أبت أن تحملها السموات والأرض وحملها الإنسان، إنه إيجابية؛ أي عمران ونماء وتطور.
بهذا المفهوم المتحجر للدين يصرون على أن التراث حاضر اليوم وفاعل، استمرارا للماضي في الحاضر، والزمان يسجل لحظات كمية لا كيفية فيها. هذه رومانتيكية صريحة (الرومانتيكية عادة تضرج في الدماء لأسباب مختلفة) رومانتيكية اللياذ بالعوالم الذاتية المنفصلة عن العالم الموضوعي المشترك، رومانتيكية العجز عن الفكر الخلاق والفعل الإيجابي، رومانتيكية التضاد مع العقلانية. من هنا كانت ضد التنوير، بل هي الإظلام بعينه؛ الإظلام هو تغييب الواقع. وبهذا يشحذون سلاح الخصم، فلن يعود الدين - كما يقول أعداؤه - أفيونا للشعوب لأنه مخدر لها بأفكار أخروية فحسب، بل أيضا لأنه اغتصاب للواقع وتغييب للآن، إلغاء للزمان ونفي فكرة التقدم، مخالفين صحيح السنة، حيث اعتبر الرسول عودة ساكن الحضر إلى البداوة والعيش مع الأعراب (ارتداد على العقبين) كبيرة من الكبائر صاحبها كالمرتد. كيف ولماذا ينفون التقدم الحضاري؟
بل إنهم يفعلون بالتقدم ما هو أكثر من النفي، إذ يعكسونه، يجعلونه قهقريا بالعود إلى الوراء، مستندين إلى فهم تعسفي أو تحجري للحديث الشريف: «خير القرون قرني ...» ملغين مفهوم المثل الأعلى، ومنكرين أن الحضارة مسار تراكمي. إنهم يفضلون القرون الأربعة الأولى. وكلما سرنا قدما مع التاريخ سرنا مع انهيار تدريجي متوال لتلك الذروة التقدمية، ليكون عصرنا أدنى درجات الانهيار، وكل عصر آت درجة أدنى، ما لم يحدث التقدم القهقري بالرجوع إلى الوراء واللحاق المستحيل بعصر ولى وفات.
من هنا كانت «الماضوية» محورهم. إنهم يعتبرون اللحظة الماضية منطلق الحلول للحاضر والمستقبل، فيكون الماضي هو الفاعل الوحيد، المبتدأ والخبر. مرة أخرى يضرون الإسلام قبل سواه؛ لأن الماضوية التي ترفض الحاضر والمستقبل تقف في مربع واحد مع الأسطورية التي تعلو على التاريخ، ولا تعترف بالزمان أو بأبعاد المكان. أهذا ما ينشدون؟ ألهذا يغمضون العيون ويصمون الآذان عن كل متغيرات؟
في كل حال ينبثق فكر الجماعات المتطرفة عن كراهية الواقع، ونفور من الحاضر، وعجز عن التعامل معه، حتى شكلها الحنين الدافق والهيام الرومانتيكي المشبوب بالماضي، فتلوذ بعوالمه المنفصلة، متوهمة إحياء الدين في الواقع وإحياء الواقع في الدين، وهي في حقيقة الأمر تدمر الطرفين معا، تدمر الواقع حين تنفيه أو تتصور إمكانية نفيه بكل زخمه وإنجازاته وعثراته وتحدياته المستجدة، وتفر إلى واقع انتهى منذ قرون. وتدمر الدين حين تنفي عنه الحياة والقدرة على التواصل والاستمرارية، وأن يؤدي مهامه حين تختلف الأزمنة والأمكنة.
هكذا تنتهي منظومتهم إلى تدمير - أو على الأقل - استلاب الحياة والفاعلية من الدين والواقع على السواء، وهذه محصلة طبيعية، ما داموا ينطلقون من التسليم باغتراب الواقع عن الدين، واغتراب الدين عنه، كوضع منته، لا مخرج منه إلا بالنفي، نفي الواقع، بمعنى السلب أو اللا أو التكفير والهجرة، ونفي الدين إلى عوالم أخرى ماضوية، يتصورونها أكثر حضورا من أي حاضر، ولله في خلقه شئون!
والآن، ما العمل؟ كيف نخرج من ذينك الطرفين الدين/التراث، والواقع/الأزمة، ليس بما يدمر أحدهما أو كليهما، بل بالمركب الحضاري المنشود القادر على الاستيعاب والتجاوز؟
ليست الإجابة في تجفيف الينابيع، كما يرى دعاة سوق شيمون بيريز الشرق أوسطية التي يزعمون أنها ستأتينا بالمن والسلوى. الينابيع غير قابلة للتجفيف ولا التهميش، فنحن الأمة الوحيدة في العالم التي تتحدث نفس لغة نصوصها السماوية والمقدسة، واللغة ليست وعاء بل هي نسيج التفكير والوعي. الدين غريب ومغترب عن أوروبا، والحضارة الغربية أتاها من حضارة أخرى، من المشرق. الدين هو صلب خصوصيتنا وعماد هويتنا القومية ومكنون مخزوننا النفسي، بناؤنا القيمي، فحوى الأعراف ... باختصار لب أيديولوجيتنا، ولا حل لمشاكلنا بدون تغذية منابع الفكر الديني بكل ما نملك من زاد، لتتدفق فيها كل ما في شراييننا من دماء الحياة والبحث والتفكير والإنجاز، لنكون أقدر من أسلافنا في التعامل مع الثوابت: الكتاب والسنة، تعاملا اجتهاديا فتيا دافقا متجددا. بهذا فقط نملك واقعنا، ونعيش عصرنا بأن نجتهد ونبدع مثلهم وأكثر، لكي نسد حاجات عصرنا، مثلما سدوا هم حاجات عصرهم، فيكون التواصل الحقيقي معهم، واستمرارية تاريخنا صعوديا لا دائريا.
الفصل الرابع
Page inconnue