Amin Khuli et les dimensions philosophiques du renouveau
أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد
Genres
الفصل الثالث
حوار مع الفكر المتطرف
يبدو أول وأهم تطبيق مباشر لمنهجيات أمين الخولي - كشيخ أصولي - هو وضعها في مواجهة مع الفكر الأصولي المتطرف، الثبوتي الجامد المتحجر. إنهم يتمسكون بحديث الفرقة الناجية من النار - الذي شكك في صحته، وفي جواز الاستدلال به ابن حزم الأندلسي وآخرون - تمسكوا به ليلزموا الطرف الأقصى الواحد والوحيد، رافضين كل المتغيرات في تدرجاتها إلى أطراف أخرى تشكل جميعها الواقع، ثم اتخذ هذا الرفض شكلا تمخض عن ظاهرة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي نتأت بارزة في السنوات الماضية لتضمخ واقعنا بالدماء والإرهاب وترويع الآمنين باسم الإسلام!
لقد أمكن تحجيمها إلى حد كبير في مصر، بفضل ما تملكه من قوى الاستنارة العقلية والقدرة على التلقي السديد لرسالة الدين، والدين فيما يقال اختراع مصري، نشأ أول مرة على ضفاف النيل، لكن الجماعات المتطرفة ما زالت تمارس فعلها في أنحاء شتى من العالم العربي، والعالم الإسلامي، فيتحول الدين على أيديهم إلى قوة معوقة للتقدم والتطور، مثلما كان قوة لسفك دماء الأهلين في أعماق مصر الغالية. ولله في خلقه شئون!
واللافت حقا أن مكمن الخلاف بينهم وبين أمين الخولي هو عينه العلة التي جعلت الدين يتشوه على أيديهم هكذا. فبينما كان البعد المحوري في منظومة الخولي العقلية هو قدرة الفكر الديني على التجدد والتطور، لينساب تيارا دافقا في مسار التاريخ، قادرا على استيعاب ومواجهة متغيراته، نجد الفكر المتطرف يقف في مواجهة يائسة بائسة مع التاريخ والتاريخانية.
إن التاريخ هو حجر العثرة الذي يتصاعد منه مستصغر الشرر ليضرم مستعظم النيران. فإذا كان الله تعالى قد جعل الإنسان تاج الخليقة وبطل الرواية الكونية؛ فذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع تاريخا. التاريخ هو ما يجعل عالم الإنسان مختلفا عن عالم الحيوان والنبات والجماد، الذي لا يعرف صنع المتغيرات ولا تراكماتها. التاريخ هو فاعلية الإنسان هو صيرورة الحضارات وسيرورة الثقافات، هو التغير الذي جعل الإنسان الكائن الوحيد الذي يدرك معنى الزمان ويصنع له حسابا، فكان الوحيد الذي يعرف معنى الصعود والتقدم واختلاف الأمس عن اليوم.
ومهما كانت نوايا الجماعات المتطرفة، ومهما كانت أهدافهم وأسانيدهم، فإن الخطأ المحوري في استدلالاتهم الذي يؤدي إلى هذا الاصطدام الدامي العقيم مع الواقع لهو في إنكار تلك التاريخانية.
بداية، إذا كان الواقع مأزوم، فكلنا يجب أن نعمل على تجاوز الأزمة، بآفاق فكر نهضوي - لا يمتنع أن يكون دينيا - وبمجالات عمل تنموي لا يقتصر على أن يكون اقتصاديا. التنهيض والتنمية هما الشكلان الإيجابيان لرفض أزمة الواقع، كلاهما يسير على معامل التغيرات في مسار التاريخ، بحثا عن الأفضل والأجدى.
مشكلة الجماعات الإسلامية المتطرفة أنها لا ترفض الواقع المأزوم فحسب، بل تدفعها الثبوتية إلى رفض المتغيرات أيضا وأصلا، انطلاقا من رفض التاريخانية، فيطابقون بين الدين وبين التراث، بين الثابت وبين المتحول، بالتحديد بين الإسلام وبين الفتاوى لابن تيمية، وتلخيصها في (الفريضة الغائبة)، نيل الأوطار وفتح القدير لتلميذه الشوكاني، وكتب ابن القيم الجوزية، وفتح الباري للعسقلاني، والمحلى لابن حزم، المغني لابن قدامة. حتى المصطلحات الأربعة: الحاكمية والألوهية الربانية والوحدانية للمودودي ... وصولا إلى «معالم على الطريق» لسيد قطب. معظمها أعمال قيمة، لكن تنبع قيمتها من قدرتها على تمثيل روح عصرها والاستجابة لمتطلباته وتحدياته التي تختلف عن متطلبات وتحديات عصرنا. كلها خارجة من الثابت في حضارتنا: الكتاب والسنة، لكنهم ليسوا أوصياء علينا، ونحن لسنا قاصرين عاجزين عن الإبداع والاجتهاد مثلهم، والخروج من هذا المعين الثابت بما يسد حاجات عصرنا. وكما قال إمامنا شيخ الأصوليين في التجديد وفي مراعاة تاريخية الوضع الإنساني، كما قال أمين الخولي: لهم عصرهم ولنا عصرنا، نتعلم منهم ولا نحذو حذوهم النعل بالنعل.
ينفعنا الآن أبو المنهج التجريبي فرنسيس بيكون (1561-1626) فقبل أن يعرض للمنهج يبدأ بالتحذير من أربعة أنواع من الأخطاء، أو الضلالات المتربصة بالعقل البشري لتحول بينه وبين سلامة الاستدلال المنهجي، أسماها بيكون «الأوثان الأربعة». النوع الرابع «أوثان المسرح» النابعة من الافتنان بممثلي أو أعلام الفكر السابقين، وكما ينبهر متفرج المسرح ببراعة الممثل في تجسيد الدور (أو براعة المفكر في تجسيد روح عصره ومتطلباته) ينسى المتفرج واقعه ومشكلاته، يتألم لمآسي الممثل ويفرح لظفره بالمحبوبة، حتى وإن كان بين المتفرج ومحبوبته فراسخ وأميال!
Page inconnue