بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أكمل الحمد، والصلاة والسلام الأتمان على رسوله والنبيين وكل عبد صالح آمين.
الثالث من أمالي شيخنا الفقيه الإمام المفتي تقي الدين أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشهرزوري المعروف بابن الصلاح - أيده الله بطاعته، وأثابه الجنة برحمته - التي أملاها بزاوية الحديث الأشرفية الفاضلية بالكلاسة من جامع دمشق - حرسها الله تعالى وسائر بلاد الإسلام وأهله - أملاه في مجالس، أولها: عشية يوم الاثنين الرابع والعشرين من المحرم سنة ثمان وعشرين وستمائه، أملى علينا من لفظه وأصله، فقال:
Page 37
أخبرنا الشيخ أبو جعفر عبيد الله بن أحمد بن علي بن علي المعروف بابن السمين رحمه الله قراءة عليه بالموصل - حرسها الله وسائر بلاد الإسلام وأهله - سنة ثمان وثمانين وخمس مئة، قال: أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن خلف بن بخيت الدقاق، قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن العلاء الجوزجاني، ..............
Page 38
قال حدثنا فتح بن شخرف، قال: سمعت عبد الله بن خبيق يقول: سمعت رجلا يسأل يوسف سنة أربع وتسعين ومائتين: ترجو للناس فرجا؟ قال: لا، إلا أن يتوبوا.
ثم قال يوسف: حدثنا مالك بن مغول، عن الزبير بن عدي، قال: شكونا إلى أنس بن مالك ما نلقى من الحجاج، فقال:
"اصبروا، فإنه لا يأتيكم زمان إلا وما بعده أشد منه، حتى تلقوا ربكم عز وجل"، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
Page 39
قال المملي رحمه الله: هذا حديث صحيح، تفرد أبو عبد الله البخاري، وأبو عيسى الترمذي رحمهما الله بإخراجه دون مسلم وأبي داود والنسوي، وابن ماجة رحمه الله.
فأخرجه البخاري في "صحيحه" عن محمد بن يوسف، عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي.
وأخرجه الترمذي عن بندار، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان الثوري، عن الزبير. وقال: حسن صحيح.
وهو مليح بإسنادنا هذا من حديث كونه اجتمع فيه ثلاثة من سادات الزهاد الأعلام على التوالي، وهم: فتح بن شخرف، وعبد الله بن خبيق، ويوسف بن أسباط.
Page 40
ومدار هذا الحديث على الزبير بن عدي - بدال مهملة بين العين والياء - يكنى أبا عدي، وهو همداني يامي، ويقال فيه - أيضا -: الإيامي - "ويام"و"إيام" بهمزة مكسورة وياء مثناة من تحت: بطن من همدان - وهو كوفي. يقال: إنه كان قاضي الري، وبها مات سنة أحدى وثلاثين ومائة، وهو تابعي ثقة.
ويشبه بالزبير بن عربي - براء مهملة تتلوها باء معجمة بواحدة قبل ياء النسبة - أبي سلمة النميري البصري. روى عن ابن عمر بن الخطاب، روى عنه حماد بن زيد، وغيره، والله أعلم.
وابن مغول: بميم مكسورة، بعدها غين معجمة ساكنة، والله أعلم.
Page 41
وابن خبيق: بخاء معجمة مضمومة، بعدها باء موحدة مفتوحة، ثم ياء مثناة من تحت ساكنة، ثم قاف. روى عنه أبو داود السجستاني في كتاب "الزهد" له، والله أعلم.
وابن شخرف: بشين مثلثة مفتوحة، بعدها خاء معجمة ساكنة، ثم راء مهملة مفتوحة، ثم فاء، والله أعلم.
وابن بخيت: بباء موحدة مضمومة، بعدها خاء معجمة، ثم ياء مثناة من تحت، ثم تاء مثناة من فوق، والله أعلم.
والحريري، شيخ شيخنا: بحاء مهملة، والله أعلم.
ثم إنه وقع في روايتنا التي سقناها: "وما بعده أشد منه" بالدال.
والمعروف المحفوظ في غيرها: "شر منه" بالراء، والأمر في ذلك - من حيث المعنى - قريب، وربما وقع في بعض الروايات: "أشر منه" بزيادة همزة في أوله، وهو لفظ عامي مستنكر عند أهل اللغة، والله أعلم.
Page 42
وقد جاء نحو هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه، وفيه زيادات، وذلك ما: أخبرناه الشيخ الأصيل أبو المعالي محمد بن ناصر ابن الأستاذ المتكلم أبي القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري رحمه الله بقراءتي عليه في مدرسته من نيسابور، قال: أخبرنا الفقيه الحافظ أبو سعد محمد بن أحمد بن محمد الخليلي، بقراءة الإمام البروي عليه، قال: أخبرنا الحافظ أبو محمد الحسن بن أحمد السمرقندي، قال: أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي، قال: أخبرنا يونس ابن عبد الأعلى، "صح".
Page 44
قال الحافظ أبو بكر: وأخبرنا أبو عبد الله - يعني الحافظ الحاكم - قال: حدثني علي بن حمشاذ، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن إدريس الشافعي، قال: أخبرنا محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن، عن أنس بن مالك:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزداد هذا الأمر إلا شدة، ولا الناس إلا شحا، ولا الدنيا إلا إدبارا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم".
Page 45
قال المملي: إنما لم نقل بين الإسنادين: "ح"، وقلنا: "صح" اتباعا للرواية فيه، فهكذا قاله شيخ شيخنا، وأثبته بخطه في هذا الموضع وغيره، وقد سبق الكلام في ذلك بحقه في أعقاب الإملاء الأول.
Page 47
وهذا حديث غريب معروف بالشافعي الإمام رضي الله عنه، معدود في غرائب حديثه، وأنكره عليه بعض من جازف من خصومه، وإنما الحمل فيه على من فوقه، فقيل: إن أبان بن صالح عن الحسن: منقطع.
وقيل: تفرد به محمد بن خالد الجندي، وهو مجهول.
Page 48
أخبرنا محمد بن ناصر الأنصاري رحمه الله قال: أخبرنا الحافظ أبو سعد محمد بن أحمد، قال: أخبرنا الحافظ الحسن بن أحمد، قال: أخبرنا الحافظ أحمد بن الحسين رحمه الله قال: هذا الحديث إن كان منكرا بهذا الإسناد، كان الحمل فيه على محمد بن خالد الجندي، فإنه شيخ مجهول، لم يعرف بما تثبت به عدالته، ويوجب قبول خبره. وقد رواه غير الشافعي عنه، كما رواه الشافعي.
Page 49
قال المملي: وأما ما روي لنا عن يونس بن عبد الأعلى أن رجلا جاءه فسأله عن حديث الشافعي هذا، قال: فقال لي: من محمد بن خالد الجندي؟ فقلت: لا أدري، فقال: هذا مؤذن الجند، وهو ثقة. فقلت له: أنت يحيى بن معين؟ فقال: نعم، فإن هذا لم يثبت له وصف العدالة، ولم يخرجه عن حيز الجهالة عند أهل هذه الصناعة.
Page 52
وأخبرنا محمد بن ناصر الأنصاري، قال: أخبرنا الحافظ أبو سعد الخليلي، قال: أخبرنا الحافظ الحسن بن أحمد، قال: أخبرنا الحافظ أحمد بن الحسين أبو بكر، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد ابن الحسين بن فنجويه، قال: ثنا ظفران بن الحسين، قال: حدثني محمد بن علي [بن] إسحاق المروزي بقرميسين، قال: ثنا عبيد الله بن محمد بن عيسى المروزي، قال: سمعت أحمد بن سنان يقول: كنت عند يحيى بن معين جالسا في مسجده، فدخل عليه صالح جزرة، فأقبل عليه يذاكره حتى ذاكر: الحسن، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا مهدي إلا عيسى" فقال: بلغني عن الشافعي أنه رواه، والشافعي عندنا ثقة، والله أعلم.
وقد روى هذا الحديث - سوى قوله: "ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم" - من أوجه شاهدة له. منها:
ما أخبرناه محمد بن ناصر، قال: أنا أبو سعد محمد بن أحمد، قال: أنا الحسن بن أحمد الحافظ، قال: أنا أحمد بن الحسين الحافظ، قال: أنا أحمد بن الحسن القاضي، قال: ثنا أبو العباس الأصم، قال: ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، قال: أنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن يحيى بن الحارث، عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: رأيت أبا أمامة قام، قال: فلقد قمت مقامي هذا، وما أنا بخطيب، ولا أريد الخطبة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
Page 53
"لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا يزداد المال إلا إفاضة، ولا يزداد الناس إلا شحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار خلقه".
تابعه معن بن عيسى، عن معاوية بن صالح، والله أعلم.
Page 54
قلت: وقد أخرج حديث الشافعي أبو عبد الله بن ماجة في "سننه" عن يونس بن عبد الأعلى، عنه. فكأن حاله حسنت عنده بشواهده، والله أعلم.
Page 55
وأما قوله: "ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم" فيحمل على وجه يخرج به عن أن يكون مناقضا للأحاديث المثبتة لكون المهدي من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم - خارجا - بأن يقال: المراد به: لا مهدي على الكمال - أي: عند تفاقم الخطوب المذكورة - إلا عيسى بن مريم - صلى الله عليه وعلى نبينا والنبيين وسلم - لأن إطلاق النفي على الشيء والمراد به نفي كماله لا نفيه من أصله، معهود في اللسان العربي.
Page 56
وقد أخرج أبو داود والترمذي وغيرهما أحاديث يزيد بعضها على بعض في أنه سيخرج في آخر الزمان مهدي من ولد فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يواطىء اسمه اسمه، ونسبه نسبه، يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جورا وظلما، وأنه يملك سبع سنين، أو تسع سنين، وفي بعضها أنه يؤم هذه الأمة، ويصلي خلفه عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - فلسنا ننفي هذا المهدي رأسا، ولا نثبته كما أثبتته الرافضة حيا منتظرا، فإنه خيال وجهل، بل نقول: إنه سيولد في آخر الأمر، على ما وردت به الآثار المعتمدة قولا عدلا بين الغلوين، ومنهجا قصدا بين الحيدين، والله أعلم.
Page 57
مضى لنا الآن: البروي، بالباء الموحدة والراء المهملة المخففة المفتوحتين، وهو أبو حامد محمد بن محمد الطوسي صاحب "الجدل" المعروف وغيره، والله أعلم.
والعقيلي: بفتح العين، منسوب إلى عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، والله أعلم.
والجندي: من الجند من بلاد اليمن، بالجيم والنون المفتوحتين، والله أعلم.
وابن فنجويه: بفاء مكسورة، ثم نون ساكنة، ثم جيم، والله أعلم.
وظفران: بظاء قائمة، وفاء ساكنة، ضبطه كذلك شيخ شيخنا أبو سعد الخليلي، والله أعلم.
Page 58
وقرميسين: بقاف مكسورة، وراء مهملة ساكنة، وميم مكسورة، وسين مهملة مكسورة بين ياءين لينتين، بلدة على أيام من همذان إلى ناحية العراق، والله أعلم.
وصالح جزرة: هو صالح بن محمد البغدادي الحافظ، لقب جزرة لأنه قرأ على شيخ: عن أبي أمامة، وقيل: عن عبد الله بن بسر: أنه كان له خرزة يرقي بها المريض، فصحفها جزرة بالجيم، فلقب بها.
وقيل في سبب ذلك غير ذلك.
وفتح الجيم في الجزرة لغة.
ثم إن حق العربية فيه إضافة صالح إلى جزرة، كما في قولهم: سعيد كرز، ونحوه، والله أعلم.
Page 59
- القول في معنى الحديث:
Page 60