وهو يصور لنا الناقد ضيقا بامرأته التي تعنف به، وبأبنائه الذين يثقلون عليه، هاربا منهم إلى خزانة كتبه حيث يعاشر الموتى من الكتاب، يفزع إلى معاشرتهم، ويأنس بهذه المعاشرة ويستعين بها على كسب القوت حين ينقضي الشهر.
وهذا في نفسه كلام ظريف قد تكون له روعته وجماله، ولكنه في حقيقة الأمر كلام فارغ لا يدل على شيء، فسواء أراد جان بول سارتر أم لم يرد، فقدماء الكتاب والشعراء والفلاسفة قد ماتت أجسامهم، ولكن نثرهم وفلسفتهم لم تمت، والنقاد يعيشون على هذه الآثار الخالدة الحية كما يعيش عليها جان بول سارتر نفسه.
وهو في هذه الدراسة نفسها يذكر كانت وهيجل، وقد ماتا منذ زمن طويل، ولكن فلسفتهما ما زالت حية تغذوه هو وتغذو غيره من الوجوديين، كما تغذو النقاد الذين لا يحبهم جان بول سارتر؛ لأنهم لا يحبونه ولا يهدون إليه الثناء.
ومن أسخف السخف أن يقول قائل: إن معاشرة أفلاطون وسيسيرون والجاحظ وڤولتير إنما هي حياة مع الموتى وإقامة بين القبور؛ فإن هذا الكلام إن دل على شيء فإنما يدل على الحنق والغيظ والغرور، وأكبر الظن أن جان بول سارتر لم يرد به إلا إلى أن يغيظ النقاد ويحفظهم ويسخر منهم شفاء لبعض ما في صدره من موجدة.
على أن من الحق أن جان بول سارتر قد أتيح له التوفيق حين عرض للقسم الثاني من دراسته، وهو «لماذا نكتب»، وإن كان يغلو فيما يقرر في هذا القسم من الأحكام كما يغلو في أكثر أحكامه؛ فهو مثلا لا يؤمن بأن الكاتب قد يكتب لنفسه لا للناس، ومن المحقق أن الكاتب يكتب للناس، ولكن من المحقق أيضا أن كثيرا من الكتاب والشعراء يخدعون أنفسهم أو يخدعون عن أنفسهم فيعتقدون مخلصين أنهم لا يكتبون لأحد غير أنفسهم، وأنهم لم يريدوا أن يذيعوا ما كتبوا، وإنما أكرهوا على ذلك إكراها؛ أكرههم على ذلك أصدقاؤهم والمعجبون بهم، واختلست منهم آثارهم اختلاسا، فنشرت على غير رضا منهم، وأذيعت على غير رغبة منهم في أن تذاع.
ولست أدري أين قرأت أن بول فاليري أنشأ مقبرته البحرية، وجعل يعيد النظر فيها وقتا طويلا مغيرا ومبدلا، يحذف من هنا ويضيف إلى هناك، حتى زاره جاك ريفيير، فاختطف القصيدة منه اختطافا، وكان هذا أول إذاعتها.
وما أشك في أن الكتاب والشعراء والفنانين يخدعون أنفسهم، ولكني لا أشك في أنهم كثيرا ما يخلصون في هذا الخداع أو الانخداع، ومن الناس من لا يكره إطالة النظر في المرآة، ومنهم من لا يكره إطالة العكوف على نفسه والانحناء على أعماقها، فليس ما يمنع أن يكتب بعض الكتاب ليتخفف مما يثقله من الخواطر والآراء، ثم يجد اللذة في أن ينظر فيما كتب مصلحا له يلتمس الكمال، أو محدقا فيه كما يحدق في المرآة.
ولكن أكثر الكتاب والشعراء والفنانين ينتجون للناس قبل أن ينتجوا لأنفسهم، أو قل مع جان بول سارتر؛ إنهم ينتجون لأنفسهم وللناس. فالإنتاج الأدبي عندهم مشاركة متصلة بين الكاتب والقارئ، أو بين المنتج والمستهلك، كما يقول أصحاب الاقتصاد.
ولكن لماذا يكتب الكاتب؟ ولماذا يقرأ القارئ؟ وما عسى أن تكون القوانين التي تنظم الصلة بين القارئ والكاتب، أو التي تصف هذه الصلة وصفا دقيقا وتصورها تصويرا صادقا كما تصف قوانين العلم ظواهر الحياة؟ يلاحظ جان بول سارتر أمرين يدفعان الكاتب إلى أن يكتب، بل يدفعان الفنان إلى أن ينتج على اختلاف الفنون؛ أحدهما: أن الفنان يريد أن يشعر نفسه بأنه كائن أساسي في هذا العالم الذي يعيش فيه؛ فحقائق الحياة وحقائق الطبيعة موجودة سواء أعرفها الإنسان أم لم يعرفها، ولكن وجودها إغراق في النوم، وإغراق في النوم العميق السخيف، إلى أن يظهر عليها الإنسان فيعطيها معنى ويرسم لها أغراضا وغايات.
فالزهرة الجميلة زهرة ما، لا قيمة لها ولا لجمالها إلا أن تعرف وتقوم ويصور جمالها، والإنسان هو الذي يستطيع أن يعرفها وأن يقومها وأن يخلع عليها هذا الجمال، وهو لا يخلع عليها جمالها الموضوعي الذي لا قيمة له في نفسه، وإنما يخلع عليها جمالا ذاتيا ينشئه هو في نفسه إنشاء ويضفيه على الزهرة إضفاء.
Page inconnue